إعلان

مشاركة سياسية.. تعني وجود  ثقافة سياسية

مشاركة سياسية.. تعني وجود ثقافة سياسية

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:01 م السبت 19 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تعتبر الحلقة النقاشية عن تفعيل الحياة الحزبية والمشاركة السياسية التي تمت خلال المؤتمر الخامس للشباب الأسبوع الماضي من أهم وأجرأ الجلسات التي شهدتها مؤتمرات الشباب التي عٌقدت حتى الآن.

وتنبع أهمية هذه الحلقة من واقع حساسية الحديث عن المشاركة السياسية بين صعود وهبوط حاد شهدتها تلك المشاركة منذ ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ حتى الآن. كما تثور حساسية ذلك الموضوع من كونه يعقب انعقاد الانتخابات الرئاسية، وتولي الرئيس عبدالفتاح السيسي الرئاسة لفترة ثانية وتراجع ملحوظ في نسب المشاركة في الانتخابات، فضلا عن اعتبار ثالث هو انشغال السياسيين من الحزبيين وأعضاء البرلمان والرأي العام بتشكيل حزب "كبير" يتم فيه دمج عدد من الأحزاب المنضمة "لائتلاف دعم مصر" ليصير ظهيرا سياسيا لرئيس الجمهورية.. وقد استغرقت هذه المناقشات وقتا طويلا بين الممكن والجائز والعسير.

...

وفي الواقع فإن هذه المناقشات حول الحاجة لوجود حزب "كبير" إلى جانب الأحزاب الأخرى يثير تساؤلا حول المزاج السياسي للنخبة السياسية في مصر بعد ثورتين حاسمتين.

كما يقودنا إلى تناول نمط الثقافة السياسية الذي يقود المجتمع السياسي إلى وضع تفضيلاتها حول شكل الحياة السياسية والحزبية.

وهنا لا بد من الحديث عن دور الثقافة في توجيه المشاركة السياسية. فمن المفترض أن المثقف هو الوجه الآخر للسياسي، والسياسي هو الوجه الآخر للمثقف. فالمثقف ينخرط بدوره في الحياة السياسية، باعتبارها شأنا عاما ومجالاً حيوياً لإنتاج أشكال وألوان مختلفة من الثقافة.

...

فإذا عدنا إلى بدايات القرن التاسع عشر نجد أنه تم وضع الخطوات الأولى للسياسات الثقافية قبل تشكيل أي مجالس عليا للثقافة. وقد ركزت معظمها على السياسات التعليمية من خلال وزارة المعارف. وهو اتجاه أدى إلى بناء وتطوير ثقافة سياسية منبثقة عن سياسات ثقافية ترسخ آنذاك لقيم الحرية والتنوع والهوية المصرية العربية واحترام العمل والفنون، حيث طرح الواقع المصري السياسي والاقتصادي والاجتماعي آنذاك عددا من القضايا المهمة التي ساعدت النخب الثقافية والسياسية على تشكيل قيم سياسية مثلت نقاط قوة.

ومثلما صاغت الأحداث في القرن التاسع عشر القيم الثقافية والسياسية، فقد أثرت بدورها على المؤسسات التي تركز دورها في بناء وترسيخ هذه القيم. وكانت أولى هذه المؤسسات هي وزارة الإرشاد القومي التي تأسست عام ١٩٥٢.

جدير بالذكر أن الذي تولى رئاستها سياسي بارز وهو " فتحي رضوان". وانبثقت عنها مؤسسات أخرى مساعدة مثل المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب.

وقد عكس هذا الهيكل الثقافة السياسية التي كانت تُعلي من قيم التعددية والتنوع وتقبل الاختلاف والاستجابة لاحتياجات قطاعات المجتمع العريضة، بالإضافة لتمكين أفراد المجتمع من الوصول للمنتجات المعرفية المختلفة. وكان من بين هذه الاحتياجات الحاجة للمعارف السياسية كمدخل من مداخل المشاركة السياسية.

...

ويمكن تعريف الثقافة السياسية بأنها مجموعة القسم والمعارف والتوجهات نحو السلطة السياسية. فالثقافة السياسية في أي مجتمع تتشكل من خلال مجموعة من العوامل والظروف التاريخية والبنائية الخاصة بهذا المجتمع والتي تضفي عليه خصوصية تميزه عن المجتمعات الأخرى. ومن تعتبر جزءا لا يتجزأ من الثقافة العامة، وبالتالي لا يمكن فصلها عن ثقافة المجتمع أو حصرها في فئة بعينها دون غيرها.

ولا يمكن تصور مجتمع ديمقراطي يطالب أفراده بالمشاركة السياسية وإنشاء أحزاب سياسية، في ظل غياب ثقافة سياسية ما.

إن الموجود من الثقافة السياسية- عقب ثورتين- هي مجموعة من القيم المضطربة والأفكار المتناثرة التي لا يوجد رابط بينها. وهي حالة أقرب للسيولة منها إلى الثبات على أي شيء ثقافي. حيث يتداخل الحنين لقيم القومية والعروبة والتحرر والحداثة مع الرغبة في الاندماج والحرية والفردية والمادية وما بعد الحداثة.

كما نشهد شبه تراجع لدور المثقف- السياسي في المجال العام. فلدينا إما كتاب أو مثقفون في مجالات بعينها أو سياسيون ينتمون إلى حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

كما نلحظ عدم فهم وغموض لمفهوم الثقافة نفسه، والأهم من ذلك وظيفتها في تشكيل توجهات الأفراد السياسية وتحقيق الانضباط المجتمعي. ومؤشر ذلك انتشار ثقافة العنف مثل التطرف والإرهاب والإقصاء من جهة، ووجود خليط من ثقافات مستوردة أو شكلية وثقافات متناقضة لا تصمد أمام التحديات الكبرى التي يمر بها المجتمع كقضية الهوية على سبيل المثال، ومن ثم لا تساهم في حلها، بالإضافة إلى الغلو في الاعتماد على المعلومات خارج سياقها بفعل سطوة أدوات التواصل الاجتماعي على التواصل المجتمعي والقراءة، مما أثر على التوجهات السياسية العامة. كما يتم مناقشة الثقافة بعيداً عن دورها السياسي.

...

وعليه، من الصعب تخيل إمكانية حدوث مشاركة سياسية بدون موجهات ثقافية سياسية حقيقية. وهو ما نشهده الآن من حالة التيه في التفكير في كيفية بناء إحدى أهم مؤسسات التنشئة السياسية وهي الأحزاب السياسية.

ومظاهر هذا التيه السياسي الذي قد لا يساعد على استقرار الأطر البنيوية السياسية وعلى رأسها الأحزاب ما أطلق عليه "الاستسهال السياسي" والعودة إلى السلطة الحزبية الواحدة بسبب النكوص الذي تواجهه العديد من الأحزاب السياسية سواء في خطابها السياسي أو مواردها البشرية والمالية.

يُضاف إلى ما سبق الرهبة من الدخول في تجارب سياسية جديدة أو مختلفة عن التجارب السابقة، والعجز عن الفكاك من مركزية النظام الحزبي القائم على نظام الحزب الواحد "الكبير". وأيضاً تشكُل ذاكرة سلبية حول المشاركة السياسية ونتائجها على المجتمع. فكثيراً ما نسمع من نخب مصرية عبارات " قررت البعد عن الحياة السياسية والاكتفاء بالعمل الاجتماعي" كترسيخ لفصل كل ما هو مجتمعي عن كل ما هو سياسي والعكس، وتجزئة المجال العام إلى تخصصات وقطاعات. وهو ما يفسر التراجع الذي نشهده في نسب المشاركة السياسية في مصر.

وأمام هذا المشهد " المرتبك" يكون من الصعب الحديث عن مشاركة سياسية حقيقة منتجة نظرا لغياب المحددات الثقافية لها.

...

وعليه هناك حاجه إلى بناء خطاب ثقافي شامل تكون القيم السياسية في مركزه، وتوجه المشاركة السياسية، سواء انطلقت تلك المشاركة من مؤسسات حزبية أو برغبات فردية. كما حان الوقت للعودة إلى جذور الإشكالية التي نحن بصددها. فالأحزاب السياسية - على أهميتها- ليست وحدها سببا في غياب وضعف المشاركة السياسية، وإنما هو ضعف الثقافة السياسية والثقافة العامة بشكل عام، وغيابها عن خطاب المؤسسات الثقافية بشكل خاص . وهو العامل الذي يجب الانتباه له.

إعلان