إعلان

عصافرة قبلي.. دراما الحب في الإسكندرية

عصافرة قبلي.. دراما الحب في الإسكندرية

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 13 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الإسكندرية مدينة الشرق والغرب، مدينة الفلاسفة والقديسين والأولياء، مدينة عشاق الحياة والزاهدين، مدينة الوثنيين والموحدين، مدينة كل شيء ونقيضه. وتلك التناقضات تُمثل خصوصية جغرافية وروحية وفكرية مميزة للمدينة العتيقة، اكتسبتها منذ تأسست على سواحل مصر الشمالية، بعد أن طافت كحلم في خيال شخصٍ قلقٍ لا يهدأ عقله، ولا يستقر جسده في مكان، وهو الإسكندر الأكبر.

وهذه المدينة لم تعدم، على مدار تاريخها، مَن أدرك سماتها، وعشقها لدرجة الكراهية أو كرهها لدرجة العشق، ثم كتب عنها ليُجسّد فيما كتبه ثقافتها المفتوحة وتناقضاتها التي انعكست في حياة وخيارات ومصائر سكانها؛ مثلما فعل الأديب الإنجليزي "لورنس داريل" في رباعيته الشهيرة عن الإسكندرية، وبخاصة في جزئها الأول الذي حمل عنوان بطلته "جوستين"، التي وصفها "داريل" ببراعة رابطًا بينها وبين مدينتها، فقال عنها: "هي امرأة تجسدت في شخصيتها كل تناقضات مدينتها".

وأظن أنّ رواية الأديب الشاب "مختار سعد شحاتة" الجديدة التي تحمل عنوان "عصافرة قبلي"، والصادرة عام 2017 عن دار بتانة للنشر، لو قُدّر لها المُتابعة النقدية التي تليق بها، سوف تحتل في تاريخ الأدب - الذي جعل من الإسكندرية فضاءً للسرد - مكانة كبرى؛ ففيها نجد بعض ملامح الطوبغرافية المعاصرة للمدينة، مثل العصافرة قبلي والمندرة قبلي، وأهم شوارعهما كشارع المعهد الديني، وشارع العشريني والثلاثيني، وشارع الملاّحة، وشارع 45، وشارع النبوي المهندس، وكلية الدراسات الإسلامية، ومستشفى المعمورة، ومساكن طلعت مصطفى، كما يحضر حي بحري الشعبي، وحي كفر عبده الراقي، والمساجد الأثرية القديمة، التي تحتوي على مقامات أبرز رجال التصوف السكندريين مثل المرسي أبو العباس وياقوت العرش.

كما أن بطلي الرواية "شوق سالم" الصوفية الارستقراطية ابنه "حي كفر عبده" الراقي، المسكونة بالشوق والموعودة بالفقد، وحبيبها "يونس عمر" الطبيب الصعيدي ممصوص القوام، وشبيه "ذي النون المصري" ، والذي كفر بكل ما آمن به، بعد أن هُزم على جميع الأصعدة، وخسر كل شيء في حروبه السابقة، وانتقل من الصعيد للإسكندرية، ليبحث عن أفق لعقله وحريته، ومأوى لروحه وجسده، سوف يصبحان معاً أسطورة جديدة للعشق، ربما ترويها الأجيال المقبلة، وتًعيد من خلالها الاعتبار لتلك المشاعر المتأججة الخلاقة التي افتقدناها في حياتنا الحالية.

الفكرة الرئيسة للرواية، هي مفارقة الحب في الزمن الخطأ، الحب الذي يأتي على غير توقع أو انتظار، فيُحيي ما مات من مشاعر واحتياجات، ويُعطي الحياة معنى وقيمة، ثم حتمية الفراق الذي تصنعه مفارقة اللقاء في جغرافيا باطلة، جعلت ضحاياها يصرخون في صمت: لماذا أدخلتنا يا ألله في التجربة؟!

وقد جعلت تلك الجغرافيا الباطلة "يونس عمر" بطل الرواية يُخاطب حبيبته "شوق سالم"، فيقول: "لماذا تأكل مدينتكم الفرح النابت في روحي؟! ولماذا باتت مدينة للفقد؟!.. أنا تعبت يا شوق، أقسم لك حتى لو كان خلاصي في ذهاب العقل فليكن".

فترد هي بدروها عليه: "كل ذلك كان وعداً علينا يا يونس، لا نملك من الأمر شيئا يا حبيبي، لا نملك". وتُضيف لاحقاً: "إسكندرية ببحرها الرحب ضاقت عليكم، وما بلت ريق للمحبين منكم يا أهل الصعيد".

بعد ذلك نكتشف أن "يونس عمر" قد هرب من ظلم الجغرافيا الباطلة، ومن شطط الأسئلة المرهقة للعقل والروح، بالهيام في ملكوت الله مجذوباً غافلاً عن كل ما حاوله، بعد أن ترك لحبيبته مذكراته التي حملت عنوان "دفتر العاشق القروي"، والتي أصبحت زاد الحبيبة طوال غيبته الجسدية التي استمرت أكثر من عشرَ سنوات، لا تعرف عنه فيها أيّة معلومات.

ومع ذلك فإن غيبته وجهلها بمصيره، لم تجعل صوته ووجهه ورائحته تفارقها يوماً، ولم تجعلها تيأس من البحث عنه أو تتوقف طرح الأسئلة الوجودية المُرهقة للروح والعقل، مثل قولها: "أنا هنا الآن وحدي، لا أعرف الحكمة في كل ما حدث، ولا أدرك السبيل للخلاص من كل ذلك الوجع؟ تتداعى الصور والأحداث كلما قلبت أوراق الكتاب، وتعود للحياة مشاهدي من جديد، فأشعر بخصومة تتسلل إلى قلبي ... لماذا حرمتني وحرمت قلبي أن تدوم سعادته؟".

وتظل في تلك الحيرة لأكثر من عشر سنوات، تحدث خلالها تحولات كبرى في الإسكندرية خاصة ومصر عامة، حتى تعرف - قبل النهاية - مكان حبيبها، وتصل إلى لحظة الاستنارة التي تريح روحها، وتُخلصها من شطط الأسئلة، وتجعلها تخاطب حبيبها الغافل عن ذاته والعالم من حوله، فتقول: "أنا الآن تمتد أمامي ساحة من براح عظيم صنعته بحكايتي معك، بكل جنون وبكل طيش، وبكل محبة، وبكل ما لم يفهمه من العالمين إلا من ذاق الكأس التي سُقِي منها الشاربون في تيه المحبة، فلا يعودون كما كانوا بعد أن يحجوا إلى قبلة قلوبهم، وإن كانت في جسد الحبيب مخفية، ومتى ارتاحوا إليها كبروا للمحبة سبعاً، وطافوا وسعوا لتغفر لهم المحبة ما تقدم من ذنب البدايات، فعادوا مثلما أنا الآن، لم يمسسني سوء، بيضاء الروح شفافة.

في النهاية، هذه رواية جديرة بالقراءة لسحر لغتها وفضائها السردي، وبراعة رسم شخصية ومصائر أبطالها؛ فهنيئاً للإسكندرية ميلاد روائي واعد يُعيد تجسيد روحها، ويُكرس حضورها في التاريخ الأدبي، وهنيئاً لكل عشاق الرواية بهذا النص الذي يحمل كل مقومات الأدب الذي ولد ليُكتب له الخلود.

إعلان