إعلان

... وعشوائيون أيضًا

... وعشوائيون أيضًا

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 11 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما كتبته عن علاقتنا كأمة مصرية بالنظافة أغضب أصدقاء وقراء، فقررت أن أمضي في الغي، وأكتب عن العشوائية في حياة المصريين المحدثين وثقافاتهم.

الكتابة عن العشوائية في حياتنا تسبب الحيرة، لأنني لا أعرف من أين أبدأ، فكلما نظرت حولي وجدت العشوائية مسيطرة في كل مناحي الحياة عندنا.

هل لاحظت ما يفعله سائقو السيارات عندما يركنون السيارة في ساحة انتظار لا يقف فيها سوى عدد قليل من السيارات، فيما تتوافر فيها مساحات واسعة لانتظار المزيد من السيارات؟

ستجد الناس يركنون بشكل عشوائي، بالطول أو بالعرض، عبر الخطوط وفوقها؛ والحجة هي "ليه لأ؟" مادام هناك وفرة من أماكن الانتظار، وكأن لسان حالهم يقول: "ليه تلتزم بالنظام ما دام تقدر تكون عشوائي؟".

لاحظ سلوك السائقين عندما تكون ساحة الانتظار مزدحمة، عندها سيركنون سياراتهم بعشوائية، صف ثانٍ وثالثٍ، وحجتهم جاهزة: ماذا نفعل، المكان مزدحم، ونحن مضطرون؛ كما لو كانت العشوائية هي قدرنا، مرة عندما نجبر عليها، وأيضا عندما تكون لدينا الفرصة للتصرف بطريقة أخرى.

الحكومة الله يبارك لها رصفت شوارع وسط البلد، وأعدت لنا أرصفة نمشي عليها ولا أروع.

هذا هو ناتج عمل اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية، وهي اللجنة التي يرأسها رئيس الوزراء السابق ومساعد رئيس الجمهورية المهندس إبراهيم محلب.

الأمر فعلا خطير، فبغير قامة كبيرة، ومنصبٍ عالٍ، ولجنةٍ قوميةٍ، يعين أعضاؤها بقرار يصدره رئيس الجمهورية، بغير كل ذلك لن يمكن لنا أن نحصل على رصيفٍ لائقٍ في العاصمة. إذا لم تكن تصدقني، فأدعوك لملاحظة حال الرصيف في عباس العقاد في مدينة نصر، أو شارع 9 وشارع النصر في المعادي، أو شارع المبتديان في السيدة زينب، أو شارع الجيش في قلب العاصمة.

قمة في العشوائية، ذلك إن وجد الرصيف أصلا. فكل عمارة وكل محل تجاري يجهز الجزء من الرصيف الذي أمامه بالطريقة التي تعجبه، فتظل حضرتك تصعد مرة، وتهبط أخرى، وتتزحلق على البلاط الناعم مرة ثالثة، وتتعثر في الحديدة أو الطوبة البارزة على الرصيف لسبب غير معلوم مرة رابعة.

المهم أنك لن تهنأ بتمشية مريحة آمنة، وأنه عليك أن تسير وأنت في حالٍ من الانتباه الكامل، وإلا أصابك مكروه.

لن أحدثك عن الأحياء العشوائية، فقد وضعت الحكومة تطوير العشوائيات على جدول أعمالها، وقطعت في هذا المجال شوطًا يستحق التحية. لكنني أدعوك للنظر إلى واجهة أي عمارة قديمة، وإلى ملاحظة الألوان الكثيرة المتنافرة التي تلونت بها واجهات الشقق والبلكونات والشبابيك؛ كل يختار اللون الذي يحبه، في عشوائية فاقعة الألوان.

ومع أن الأصل في التلوين هو التجميل، فإن الألوان المتنافرة تخلق مشهدا قبيحًا؛ لكن أكثر ما يحيرني هو أن أصحاب الشقق لا يرون الألوان التي يدهنون بها واجهات بيوتهم، وإنما يراها الجيران والمارون في الشارع.

لا أفهم هذه العشوائية والعبث، فالناس ينفقون أموالا لوضع دهانات قبيحة لا يرونها، ولكن يراها الآخرون؛ ويتمسكون بحقهم في ذلك، باعتباره جزءًا من حرية التصرف في أملاكهم، فيا لها من عشوائية ملونة.

العقل العشوائي محدود وقصير النظر، لا يفكر أبعد من احتياجاته المباشرة؛ ولا يحسب لما وراء اللحظة الآنية، وهو عقل عاجز عن التحسب لنتيجة قراراته، أو لتبعاتها الآن وفي المستقبل.

العشوائية تتقاطع مع الفهلوة، والأنانية، ومعاداة النظافة، فينتجون لنا المشاهد التي نراها حولنا؛ وهو ما سنتحدث عنه تباعًا.

إعلان