إعلان

أنا والفسيخ وهواه

أنا والفسيخ وهواه

عادل نعمان
09:00 م الإثنين 09 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تربطني علاقة وطيدة بالفسيخ منذ الصغر، تزيد على خمسين عاماً، لم يخذلني، أو يؤلمني، أو يرفض مقابلتي، أو شكوته إلى أحد لفساده، أو شكاني إلى أحد لسوء استخدامه في غير أوانه، بل كان ملبياً وخفيفاً ورقيقاً وطيباً معي، محافظاً على الود والمعروف، راعياً أصول الصداقة والمحبة، يأتي للناس على استحياء مرة كل عام، لكنه كان كريماً وسخياً معي، يأتيني متى وأين أشاء، فأقابله مرات في العام دون خجل أو عذر، يحل عليَّ مرحباً ومحتفياً به في اليوم الذي أصوم فيه عن الخروج، أو أمنع نفسي عن لقاء الأحباب والأصحاب. كانت أمي رحمها الله تلفه مائة لفة، وتدفنه في البيت لا نعرف له مستقراً أو قراراً، حتى يوم موعده يخرج هذا الميت من مقره، حيًّا على موائد شم النسيم، لا أنسى يوم أن أجبرتني أمي على اعتماده وقبوله غذاءً سنوياً لي قهراً وقسراً، بإغلاق العينين والأنف والأذنين حتى يمر مرور الكرام، فقد كان هذا أهون عليها من إعداد طعامين في وقت واحد، وكان لزاماً علينا اعتماده وقبوله طعاماً معترفاً به، فكان عملاً جليلاً، أضيفه إلى كل عمل جليل أجبرتني أمي عليه يوماً ما، الآباء يعرفون مصلحة الأبناء، رحمة الله عليك أيتها المتفانية حتى في اختيار الأصدقاء وأصناف الطعام والشراب، وقد كان لأسلوب الجبر والإرغام هذا مصلحة وفائدة كبيرة، فقد عودتني أمي أنا وإخوتي على اعتماد وقبول واستطعام كل أنواع الطعام وصداقتها ومحبتها، فلم نكره منها أحداً على الإطلاق، أو حتى نفكر ونفاضل بين طعام وآخر، أو صنف وآخر، فما جاءونا به قبلناه وارتضيناه، وأكلناه وحمدناه وشكرناه، ولم يكن سؤال "تحب تاكل إيه النهاردة؟" محيراً في إجابته، فقد كان الرد دوماً، "أي حاجة"، هذا إذا سُئلنا يوماً دون الأولاد، نعيش أعمارنا على ما أُجبرنا عليه في الأكل والشراب، فما أجبرنا عليه الآباء والأمهات حين كنا صغاراً أكلناه، وما أجبرنا عليه الأبناء حين غدونا كباراً أكلناه أيضاً، فلم يكن لنا في هذا الأمر من قرار صغاراً أو كباراً، ويبقى الإجبار الأعظم هو الإجبار على أكل الفسيخ حتى أصبح أعظم وأجمل إجبار حتى تاريخه.

تمر مراحل العمر من الطفولة حتى الكبر، وسنواته تتصاعد وترتقي، وتختلف المراحل والأماكن، من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، ومعهما يختلف طعم ومذاق الأشياء حتى الهواء، فما كان يوماً سائغاً طعامه وعذباً شرابه، أصبح ممقوتاً ومكروهاً، وما كان في زمن شهياً وحلو الطعم والمذاق، ارتد على عقبيه علقماً وكريه الطعم والمذاق، حتى الأماكن ما كان يوماً محبباً أصبح مكروهاً، وما كان خفيف الظل عاد إلى أصله وثقله، إلا هذا الخليل، رائحته كما هي منذ الأجداد، منذ فن التحنيط أو فن الحفظ، وعشق الأشياء والتاريخ، هذه علاقة وطيدة بين الفسيخ والتاريخ والأصالة والعراقة والأجداد، حتى نعيش في ذكراهم، تارة حين ندور ونطوف حول الهرم، وأخرى حين يدور ويطوف الفسيخ برائحته بيوتنا وشوارعنا، أو تلفلفه أمي مئات اللفات حيث مستودعه ومستقره، فلا يصل لكنزها مخلوق، فنقسم بأن رائحة تاريخنا لن تفارقنا يوماً ما. إلا أن الأمر قد اختلف الآن، فهذا فسيخ يباع مرصوصاً في البراميل، وهذا آخر في لفائف من ورق الصحف القديمة العتيقة، وهذا في أكياس من البلاستيك، أما ما صار حديثاً هذه العبوات الفاخرة المغلفة والمجهزة للأكل دون تجهيز أو تفسيخ، ودون عناء أو مشقة، إلا أنني ما زلت على عهدي به، أحبه وأرضى به على قديمه. لا أقبل التنازل عن طقوسه التاريخية، ولا أرضى بغلافه الحضاري، حتى لو كان منافياً ومخالفاً للذوق العام، نأتي به محمولاً على محفته، يسبقه على المائدة البصل الأخضر والأحمر والليمون والخس وقطع متساوية من الخيار والطماطم والعيش، نفض ونفك اللفافة ورقة ورقة، ومع كل ورقة تظهر لنا حلاوة الفسيخ، أعرف جماله وحلاوته ومذاق طعمه من أول طلة لرائحته حين نرفع عنه لفائفه، ونرفع الفسيخة إلى أعلى من ذيلها ناظرة إلى أسفل، نلفها حول نفسها مرة من اليمين وأخرى من اليسار، نستعرض ونستكشف مواطن اللحم والجمال والغزو، ومن أين نبدأ أكلها، ثم نبدأ وعلى الله التساهيل بواحدة ثم الثانية، حتى نتقاسم الأخيرة كلنا معاً، أرقى أنواع الفسيخ الزبدة، قليل الملح كثير الدهن تأكله فلا تشعر به، خفيف على المعدة فلا يثقلها، الاسترخاء لمدة ساعة جزء من طقوس هذا اللقاء، بعدها براد من الشاي الثقيل المغلي بالقرنفل.

يا صديقي العزيز مهما حاولوا تشويهك أو تقبيحك، أو توجيه الاتهام إليك بتسميم الناس أو إيذائهم، أو تعكير صفو الأجواء برائحتك النفاذة، فلن أستغني يوماً عنك، مهما حاولوا إلصاق هذه التهم الحالية إليك، أو ما يكتشفونه من عيوب مستقبلاً، ولن ينجحوا، حتى لو جاءوني بصور خيانتك، وكل الأفعال الفاضحة من يوم صيدك بالشباك حتى تصل إلى موائدنا، ولن أتنازل عن محبتك وصداقتك الممتدة من جدود الأجداد، واحتراماً لذكرى من تعارفنا على يديها الطيبة، فأنت من رائحة الزمن الجميل مهما كانت ريحة هواك. كل عام والفسيخ على موائدنا نسعد برائحته النفاذة.

إعلان