إعلان

ماذا يصنع التأمل بالبشر؟

ماذا يصنع التأمل بالبشر؟

د. هشام عطية عبد المقصود
09:01 م الجمعة 06 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يكبر البشر فتتراكم مع السنوات ما يسمى بالخبرات والأفكار التي يعتبرونها بمثابة حلول لما قد يتكرر- فالحياة في نظرهم تماثلات وتكرارات- ومن ثم تتشكل الفلسفات صافية كثمار يراها البعض وصفاً سائغاً للحلول يحلو لهم أن يقتطفوها، ثم يلوكونها ليعتصروا مخزون حكمتها وطرائق وصايتها كعلامات بها يمضون في دروب الكون، ما ضاق منها واتسع، ما ثبت فيها وما تبدل تبديلا، كأن من قال هذا قد أحسن وصف الطريق، طريق الحياة فخبر مغاراتها وطرقها ومواضع زللها، وانتهى إلى كتاب حياته وقدمه حلاً يسيراً سهلاً، لكن ورغم كل ذلك يكرر البشر عبر الأجيال وعبر القرون والألفيات المشاوير التي يصرون بعد ذلك أنها تتشابه في أنها امتلأت بالعثرات والعبر ثم انتهت بالاستخلاصات أيضا.

هل كان الشاعر صلاح عبد الصبور محقاً وهو يصف صديقه الذى "تسمم بالحكمة"!، يخبرنا الكثير من كتب ومرويات المذكرات والذكريات الشخصية المصرية حين تطوف بها عن بعض ما بقي في عقول أصحابها وضمائرهم وأيضا وجدانهم من فلسفة الحياة، وهى يغلب عليها فكرة كشف الحساب ثم اللاجدوى وتساوي كل شيء، تبدو حين تقرؤها استخلاصات شفافة حزينة حتى لتأخذك الدهشة من بلاغة مفرداتها ألماً، وهنا تحديداً يكمن عيبها الكبير، أن معظم بل كل كاتبيها سردوها في لحظة زمنية وعمرية وأيضا صحية تحكم تتالي الخبرات في الذاكرة وطريقة الانتقاء ومن ثم فلسفتها تلك، فكأنها تقول عبر شرائط نصوصها وحكاياتها إن الوقائع متشابهة في نتاجها مهما اختلفت في حينها، وأن أنظر كيف أن كل ما قد مررت به من نجاحات عبر كل تلك الذكريات انتهت هكذا إلى لا شيء، فأنا الآن أجلس لأحكي لك وحيداً متأملاً حزيناً! ليشبه الأمر شيئاً مما سطرته حكمة عبد الرحمن الأبنودي "دنيا على هيئة خنفسة .. ما أتعس الإنسان ما أسعد الحيوان".

تتجاهل عملية تقطير الحكمة عبر المذكرات والذكريات أوقات الحياة الطيبة، تلك الضفيرة من الحياة أو يومها الحلو، فتسرده مختزلا سريعا عابرا، فلحظة الكتابة وصورة الشخص لذاته وهو يكتب تحكم الرؤية والهدف والاختيارات، كما أن لحظة محدودية الدور واختفاء مساحة الإنجاز وقت الكتابة تشكل عدسة رؤية كل ما يمر فتسرده نصوص الذكريات، لتتبقى فقط صخور صغيرة سوداء لا تمر من ثقوب غربال الذكريات بينما تنسل منها اللحظات الحلوة من دون أن ترغب في أن تبقى قليلاً في ذاكرة الحكي.

أظن كثيراً أن من يمضي ممتطياً كتاب المسير عبر ضفاف آخرين، أو ملتقطا من صفحات أقوالا مأثورة ليقتفي أثرها، إنما ينقل من النص الساكن ليمضي من دون أن يتحلى ويمزج معه جرأة الشغف وجسارة الخوض عبر إيقاعات وأمواج الحياة كسباح أول شجاع، فيفقد طزاجة تذوق أشجار الأشياء بكل ما قد تمنحه من ثمار اجتياز التجربة الخاصة، درباً فريداً ولو تكرر، وإلا ما حكمة تعدد البشر في الكون واختلاف بصماتهم.

يأخذنا ذلك إلى فكرة الالتصاق بالأمكنة والتواريخ والشخصيات داخل كتابات التأمل تلك، ويقف بي التفكير عند أشياء عدة تشغلني في هذا السياق، هل تفرض طبيعة المجتمعات تاريخاً وثقافة وأنماطاً للحياة حساً حزيناً نسبياً أو قابلية أكثر احتمالًا للعيش في كتاب الذكريات والحكي؟.

وهل لذلك مثلا علاقة بطبيعة البنى الاجتماعية الأولى التي نشأت على شريط الخضار الضيق الممتد طولاً على ضفاف النيل؟، أذكر هنا لقطة الروائي اليوناني الأشهر كازنتزاكس في كتابه "رحلة إلى مصر" الصادر عام 1927، وهو يحكي كيف أن حياة مصر تشبه قوة وعزم مقاومة وفك قبضتي يدى الصحراء التي لا تنفك تحكم ضغطها على الوادي النهري الضيق، بينما يقاوم زحف الصحراء وأن مقاومته تلك حياة ممتدة في التاريخ صعودا، لنسأل بعد ذلك عن أثر تلك الطبيعة في جعل القرى صغيرة ملتحفة بضيق شوارعها وقرب بل وتداخل بيوتها وكأنها تتدثر في طمأنينة جوارها وكيف ارتبط بذلك تراث ضخم من المواويل الحزينة عن الغربة ولو كانت إلى مدينة قريبة نسبياً، وأيضاً لماذا لم يحمل تاريخ شعر المهجر في قوافله الممتدة عبر الأجيال شاعرا واحدا مصريا وتشكل كله شاميا ولبنانيا فقط ؟، وعلاقة تراث الالتصاق هذا وما قد يرتبط به من كتاب الذكريات المقطرة من فلسفة البعد الواحد، وعلاقة كل ذلك برسوخ اليقين بالنهاية المتساوية للكون كحل كلي ثبت منذ "فجر الضمير" لكل الحركة التي تظلل إيقاعات حياة الناس والكائنات، والتي تجعل تساوي الأشياء نتيجة معروفة مسبقاً لتصير الأشياء جميعها وفقاً لذلك "طيف خيال".

إعلان