إعلان

حملة "وأنا أيضاً".. وجه آخر قبيح للرقابة ومكارثية جديدة.. وأنا ضدها

حملة "وأنا أيضاً".. وجه آخر قبيح للرقابة ومكارثية جديدة.. وأنا ضدها

د. أمل الجمل
09:01 م الجمعة 06 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لابد أن أعترف أنه كلما سمعت أحدهم يتحدث عن تضامنه مع حملة "ضد التحرش الجنسي" أو "وأنا أيضاً" تحسّست مسدسي. ومبدئيًا - حتي لا يُساء فهمي - لست ضد معاقبة المتحرش، وشخصياً أعترف أنني تعرضت للتحرش مئات المرات منذ طفولتي وعلي مدار سنوات من العمر، لكني أيضاً في مرات غير قليلة قاومته، ومنعته، وفي مرات أخرى لقّنت المتحرش درساً ليس بالهين، وحتي في أضعف الإيمان عندما كنت أجدني وقد ملأني شعور بأن هناك خيَّة أو مصيدة تنصب لي كنت أختفي تماماً، حتي إن أحد الأصدقاء الذي كان يُدرك محاولات البعض من حولي قال لي يوماً: "أنت زي السمك بتتزفلطي". وكان يقصد قدرتي علي عدم منح الآخر - هذا الذي في موقع السلطة - الفرصة ليمارس قوته منفذاً وثغرة يمارس من خلالها التحرش… والموضوع ببساطة لأنني كائن مستغنٍ، جئت من بيئة فقيرة رقيقة الحال، تدربت علي أكل نصف "طقة"، وأحيانا علي الجوع لساعات طويلة، والاكتفاء بالماء، ساعدني علي ذلك مواظبتي علي صيام رمضان منذ طفولتي المبكرة، تعودت علي الحياة الخشنة، يمكنني أن أعود إليها في أي لحظة دون أدنى مشكلة، المهم ألا يتحكم فيّ أي أحد. فأنا أعشق حريتي واستقلالي، وجسدي شيء مقدس.

عندما كانت أمي تعاني مرضها الأخير تعرضت للتحرش من أحد الأطباء. لم أكن أعلم بالطبع أنه مرضها الأخير، مثلما لم أكن قد اكتشفت بعد أن كبدها قد هزمه المرض الخبيث نتيجة حقن التطعيم - التي كانت في تلك الأيام سرنجة واحدة يتم غليها واستخدامها عشرات المرات إن لم يكن مئات فلا أعلم بالضبط - فقط يومها كنت أدرك أنها في حالة خطيرة، وصحتها متدهورة، وأنها تتألم دون رحمة.

كان الطبيب هو المسؤول الأهم بذلك القسم الجديد بالمستشفى الذي يتوفر به كثير من الإمكانيات، وكان للطبيب الكلمة العليا، وكان بإماكانه طرد أمي بسهولة إن لم أستجب لمحاولاته. وكنت أعلم ذلك جيداً، وكنت لا أملك أموالاً لأدخلها مستشفى استثمارياً، ولكني لم أقدر علي خيانة جسدي، ولم أتنازل عنه مقابل أي ابتزاز. تعودت أن أمنحه فقط لمن أحب. لم أفعل أي شيء مستحيلاً، ولم أنتظر المعجزة. فقط كففت عن زيارة أمي في أوقات عمل الطبيب. كان من السهل معرفة مواعيد عمله بالمستشفى. كانت أختي التي تصغرني بعشرة أعوام تقيم مع أمي لترعاها وأنا أقوم بعملي نهاراً وأحيانا إلى وقت متأخر من الليل في إعداد البرامج التليفزيونية وحضور تصويرها، كنت لا أكتفي بالعمل في مكان واحد لأتمكن من توفير الالتزامات والقيام بمسؤوليتي تجاه من أحبهم.

لم يستسلم الطبيب وكان يسأل أختي وأمي عني فتكون الإجابة أن لدي ضغط شغل لأوفي بالالتزامات المادية تجاه الأسرة. وعندما ألحَّ الطبيب في السؤال وطلب بشكل واضح وصريح من أختي ضرورة أن أتواجد لأنه يرغب في الحديث معي… أرسلت باعتذاري عدة مرات مع وعد بالزيارة لكني اصطحبت أمي معي.

أسرد هذه الحكاية بمناسبة الحملة الإعلامية الدولية ضد التحرش منذ ديسمبر الماضي - والتي ستشتعل مجددا وقريبا- والتي يحمل بعضها عنوان "وأنا أيضاً". بالطبع لم تكن هذه هي المرة الوحيدة… فما أكثر المرات التي قد لا تحصى التي تعرضت فيها في الشارع وفي العمل بشكل صريح أحيانا وفج في مرات مؤلمة. لكني هنا أستعيد حكاية سردها الراحل الأستاذ سمير فريد عن قاضٍ شريف ونزيه عُرضت عليه رشوة ورفضها، فأقاله رئيسه قائلا: "لابد أن في سلوكه شيئاً منح المتهم الفرصة لأن يفكر في رشوته."

انتهازية وتواطؤ

صحيح أنه ليس في كل المرات تكون لدينا القدرة علي إيقاف التحرش، أو صدّه، أو الدفاع عن أنفسنا نحن النساء، ولا حتى المقدرة علي استعادة حقنا.. لكن الأكيد وما أُريد أن أقوله أن هناك مرات يتحول التحرش إلي تواطؤ، بل دعوة من الضحية للمتحرش بأن يُنجز مهمته مقابل شيء ما، مقابل إنجاز ما، أو ترقٍ ما في الوظيفة أو العمل، أي عمل، مقابل الحصول علي دور مهم في عمل سينمائي، أو مسرحية، أو حتى مسلسل تليفزيوني، حتي إنه أصبح كالأمر المسلّم به في هذا الوسط بأن مَنْ يُريد أن يصعد - أو تصعد- فهناك أيضاً رجال يمارسون نفس التواطؤ بسرعة الصاروخ عليه بأن يهب نفسه لمن بيده الأمر. والأمر ليس حكرًا فقط على مجتمعاتنا العربية ولكنه شائع كما تعلمون في هوليوود وغيرها من بلدان العالم.

مكارثية جديدة تحتمي في المرأة

ما يدفعني للحديث عن هذا الأمر مُجدداً هو اقتراب مهرجان كان السينمائي في مايو المقبل، ومتوقع أن تُثار قضية التحرش الجنسي في هوليوود وغيرها من دول العالم مجددا، كما أثيرت أثناء مسابقتي جولدن جلوب، وأوسكار، وأثناء فعاليات مهرجان برلين، حيث تم حرمان مخرجين من ترشيح أفلامهم للتسابق علي جوائز الجولدن جلوب والأوسكار، وتم سحب أدوار كان من المفترض أن ممثلين بعينهم كانوا مرشحين لها، حتي إن بعضهم تم استبداله بعد أن بدأ التصوير بالفعل، مثلما حدث مع فيلم "كل أموال العالم" إذ تم سحب الدور من الممثل كيفن سبيسي.

ومثلما حدث في مهرجان برلين؛ إذ صرح المدير الفني للمهرجان بأن إدارة المهرجان رفضت أفلاماً لأن مخرجيها كانوا متورطين في أحداث أو وقائع تحرش جنسي. والحقيقة أنني ضد هذا الفعل جملة وتفصيلاً. أنا ضد أن أُحاكم الفن بمقاييس أخلاقية أو دينية أو حتى اجتماعية. الفن يحاكم ويعاقب بمقاييس فنية وسبل فنية، ليس من بينها المنع. إن هذا الأسلوب هو أحد أشكال الرقابة الظالمة الفجة، المتواطئة مع جهات مستفيدة من هذه الحملة.

إني أتّهم

وإني أتساءل: مَنْ وراء هذه الحملة؟! مَنْ فجّرها في البداية؟! لماذا تحدثت الممثلات فجأة عن تحرش أحد أهم المنتجين بهن، مع أنه قد تم التقاط صور لهم سوياً، وهي صور تقول إنهن سعيدات ومبتهجات بل كأنهن يتباهين لأنهن حظين بالتصوير مع ذلك المنتج المتحرش. لماذا ذهبت هذه الممثلات إلى غرف هذا المخرج أو ذلك المنتج لوحدها؟ هل غرف الفنادق هي مكان للعمل؟

دعونا نناقش أمراً آخر… في الوسط الفني لا يختبئ شيء على الإطلاق، ولا توجد أسرار.. هذه حقيقة يعلمها الجميع.. أي شخص يتحرش بالنساء، أي شخص لديه رغبات غير مستقيمة أو متعدد العلاقات الجنسية فسيكون أمره مفضوحاً… هناك دائما ألف عين وعين مفتوحة، وهذا الأمر لن يكون خافياً علي الضحية التي تدعي الآن أنها كانت "ضحية".. هنا لابد أن يتم التمييز بين التحرش، وبين الدعوة للتحرش، أو الاستسلام للتحرش لتحقيق منفعة ما أو مجد ما.

إذن علي ما أعتقد أن هناك ناساً من صالحهم الآن أن يتم إزاحة ناس - قد يكونون منتجين مسيطرين - من مناصبهم، إزاحة مخرجين عن طريقهم، وإزاحة ممثلين. والسؤال: من المستفيد هنا؟ وهل يمكن منع وحجب إبداع هؤلاء؟ مَنْ المستفيد من منع هذه الأفلام من الترشح للأوسكار، أو الجولدن جلوب؟ مَنْ المسؤول والمستفيد من وراء منع عرض أفلام هؤلاء المبدعين والمشاركة بالمهرجانات؟! هم في نظري مبدعون حتى لو ارتكبوا أخطاء أخلاقية، أنا دوري كناقدة سينمائية تقييم وتحليل أعمالهم، أما محاكمتهم ومعاقبتهم على أخطاء ارتكبوها فهذا دور القانون والقضاء. وليس دور رئيس أو المدير الفني للمهرجان. المحاكمات ضد التحرش الجنسي يجب أن تكون داخل قاعات وأروقة المحاكم، والمنوط بها رجال القضاء، أما كل من يُنصب نفسه سواء كان من الشخصيات العامة أو غير العامة، سواء من رؤساء أو مديري المهرجانات، والمسابقات السينمائية الكبرى، ويتعامل وكأنه أحد القضاة، والحاكم بأمر الله، ويمنعون المبدعين من المشاركة بأعمالهم. فهذا أمر وتصرف لا يجوز أبدا، وغير أخلاقي في رأيي، ويساهم في انبعاث المكارثية الجديدة بشكل خطير وقبيح.

تحرّش متبادل

على ما يبدو جلياً أن الممثلات الشهيرات يُردن الاستحواذ على كل شيء، على الشهرة والنجومية، والبريق والأجور الخيالية، وأيضاً يُصورن أنفسهن كضحايا للتحرش والانتهاكات الجسدية. وبالطبع ليس من المعقول أن أساوي بين نجمة أو ممثلة ذهبت للتحرش بقدميها، وبين امرأة شابة أو سيدة تعرّضت للتحرش رغماً عنها، دون أن تذهب إليه بقدميها.

أثناء اعتراضي على تلك الحملة أثناء مهرجان برلين دار نقاش بيني وبين الصديق والناقد السينمائى العراقي المقيم بالسويد قيس قاسم الذي كان متعاطفاً ومؤيداً للحملة، وأنا أثق في صدق مناصرته لقضايا المرأة، لكني اختلفت مع رأيه بأن الأمر "قد أصبح هذا قانون هوليوود وربما العالم الأجمع فمن تُريد أن تصبح نجمة عليها أن تكون "ش...".. هنا كان ردي عليه: صحيح، ولكن، مَنْ ساعد بالفعل - ولا يزال - على ترسيخ هذا القانون في هوليوود؟! .. إنهن الممثلات، وبعض النسوة، لأن بعض النسوة أصلاً يدعين الرجال إلي أن يتحرشوا بهن. لن أقول بالملابس، لأن كل امرأة لها مطلق الحرية فيما ترتدي من ثياب ومهما كانت الثياب تتسم بالإغراء فليس من حق أحد التحرش بها. وأستعيد هنا شخصية إيرين بروكوفيتش التي جسدتها الرائعة والجميلة جوليا روبرتس، فالفيصل عندي بتصرفات المرأة وليس بملابسها، فهي في أحيان كثيرة تلعب على الضعف الذكوري أمام الجنس اللطيف.

لكن هذا ليس المقصد، فالأهم من ذلك هو ذهاب الممثلة أو النجمة إلى الرجال في غرفهم الخاصة بالفنادق ثم يدعين أنه تم التحرش بهن…؟! شيء فج جدا، ومبتذل جدا، ولا أدري كيف يتعاطف معهن الرأي العام. عقلي لا يستوعب ذلك ولا يستسيغه.

في تقديري الشخصي أن هؤلاء النساء شريكات في المسؤولية، وما حدث معهن لا يُمكن وصفه أو تصنيفه في خانة التحرش… وإذا كنا نريد حقاً مواجهة مثل هذه الأشكال من التحرش فعلى النساء التخلي عن ذلك الأسلوب الانتهازي في الرغبة في الصعود إلى قمة سلم الشهرة والنجومية.

إعلان