إعلان

امرأةٌ آليةٌ لا تكفي!

امرأةٌ آليةٌ لا تكفي!

د. براءة جاسم
09:22 م الأربعاء 04 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"هدفُنا إسعادُ كلِّ رجلٍ لم يستطعِ الحصولَ على المرأةِ المثالية لتحبَّه وتفهمَه وتهتمَّ بالأمورِ المنزليةِ في الوقتِ نفسه". استوقفتْني تلك الكلماتُ التي جاءتْ على لسانِ (إتيان فريس)، أحد مصمّمي "المرأة الآلية الجنسية"، في لقاءٍ قديمٍ له.

أعترفُ بأنَّ كوْني دكتورة نفسية طغى على كوني امرأة، فلو أنني تلقيت هذا القولَ- للوهلةِ الأولى- كامرأةٍ، لشعرتُ بقدرٍ لا يوصف من السّخفِ والضِّيق، فكيف لدميةٍ لا عقلَ لها أن تَستبدلَ امرأةً بكل ما لها من طبيعةٍ وجمالٍ ومزيجٍ إلهي من العاطفةِ والعقل والتأثيرِ الحي المتبادَلِ مع رجلٍ تحبُّه بحقٍّ، وتكوّنُ في ذاكرتِهِ آمالًا وأحلامًا؟ إلا أن ردَّ فعلي كدكتورة كان صاحبَ الحضورِ الأقوى، إذ كان أولُ تساؤلٍ لديّ هو: "تُرى كيف كانتْ طفولةُ هذا الشاب (إتيان فريس)؟، كيف سارت مراحلُ حياتِه ليصلَ اليوم إلى قناعاتٍ أدت به إلى اختراع "امرأة مثالية"!!؟ هل خذلتْهُ والدتُه؟ حبيبتُه؟ انتابني فضولٌ لمعرفةِ ماضيه وحجمِ خذلانهِ وخساراتِه التي أوصلتهُ إلى ذلك، أم تُرى كان دافعُه مساعدةَ أمثالِه من الرجالِ الذين فشلوا في الحصولِ على "امرأةٍ مثالية"، أو ربّما هو شخصٌ متفوقٌ ذو ذكاءٍ تجاريٍ بحت سعى به إلى اختراع شيءٍ من أجل الحصول على المال، إلخ...

دعني أوضحُ لك عزيزي القارئ أنَّ (إيتان) ليس أول من اخترعَ هذه الدمى، لكنَّ سوءَ حظِّه أوقعه رهنَ تحليلاتي المُتخّيلةِ مسبقًا، بينما نجّاهُ منها أنني لمْ أجدْ عنه مادةً تسمحُ لي بالقيامِ بتلك التحليلاتِ على نحوٍ دقيق، فأصبحَتْ مجردَ تخميناتٍ واستنتاجات.

ولمن لا يعرف ما أتحدث عنه، "المرأةُ الآليةُ الجنسيّة" هي إنسان آلي على هيئة أنثى، جسدُها يشبهُ الإنسانَ في ملمسهِ وشكلهِ، صُمّمت خصيصًا لإقامة علاقةٍ جسديةٍ مع الرجل، بحيثُ تكونُ لديها مناطقَ إثارةٍ، إلخ... ويمكن للرجلِ القيامَ بالعلاقةِ الجسدية كاملةً، وقد قُدّمت مؤخرًا نسخةُ الذَّكرِ منها.

لن أدخلَ في تفاصيلِ الصراعِ القائمِ بين المؤيدين والمعارضين، فهذا التناولُ يحتاجُ إلى سلسلةِ مقالات، لكن أستطيعُ- باختصار- أن أقولَ إن هناك مجموعاتٍ كبيرةً تعارضُ هذا "الاختراع" لأسبابٍ عديدةٍ، أذكرُ منها على سبيلِ المثالِ أنه سيؤثرُ سلبًا على العلاقات الإنسانية، حتى إن حملةً مناهضة لهُ ظهرت باسْم "ضد الروبوت الجنسي"، وقد طالبَتْ بمنع هذا الاختراع ووقفِ العملِ على تطويره، وعلى النقيض ظهرت مجموعاتٌ أخرى ادّعتْ أن اختراعًا كهذا يمكنُ استخدامُهُ في علاجِ أمورٍ كثيرة، منها المساعدةُ على إعادةِ تأهيلِ المغتَصَبين، وكذلك تأهيل مغتصِبي الأطفال، إلخ...

وحتى لا أحوِّلَ هذا المقالَ إلى بحثٍ دراسيّ قد يصيبُك بالملل، دعني فقط أستعرضُ بعضَ المخاوفِ والتساؤلاتِ المطروحة، فمثلًا، هل سيصبحُ الرجلُ والمرأةُ الآليّانِ بديلًا للبشَر؟ قد يبدو السؤالُ ساذجًا، فاستبدالُ البشرِ بالإنسانِ الآلي بشكلهِ الحاليّ أمرٌ صعبٌ، لكنّ هذا لا ينفي أن العلماءَ العاملين على بحثِ ذلك الآليّ وتطويرِه يُكثّفونَ جهدَهم في سبيلِ أن يكونَ لديهِ ذكاءٌ عاطفيٌ وعقليٌ يمكّنُهُ من الشعورِ بما نشعرُ به مِن مختلِفِ المشاعرِ كالحبِّ والكرهِ والحزنِ والفرحِ والخوفِ وإقامةِ حواراتٍ ونقاشات وما إلى ذلك. وبهذا يصبحُ أقربَ ما يكونُ للصورةِ البشرية.

مازالتْ كلمةُ "Perfect" أو "مثالية" التي قالَها (إيتان) ترنُّ في أذُني. وحتى الآن لا يزال هذا الآليُّ غيرَ قادرٍ على أن يبادلَكَ الحبَّ، وإنما هو مبرمجٌ فقط على تنفيذِ ما تريد، لكنَّ هذا يقودُنا أيضًا إلى تحليلِ رؤيةِ بعضِ الرجالِ للمرأةِ، وللصورةِ التي يتمنّى أحدُهم أن تكون عليها، فهل يرى بعضُهم أنها خُلِقت لأداءِ الأعمالِ المنزليةِ وتلبيةِ طلباتِه الجسدية متى شاءَ، دون جُملةِ ما يصاحِبُ العلاقاتِ الإنسانية عادةً من مسئولياتٍ وواجباتٍ واحتياجاتٍ عاطفيةٍ ومادية، واستجواباتٍ لا تخلو من دلال وغيرةٍ قد تصلُ أحيانًا إلى حدِّ تقييدِ حريةِ الرجل!؟ فهل هذه المرأةُ الآليةُ تجسيدٌ لخيالِ الرجلِ وأحلامِهِ، أو على الأقل بعض الرجال ممن يرون أنها شيءٌ مدفوعُ الثمنِ ومصممٌ لتحقيقِ أقصى الرغباتِ دون الاضطرار إلى الالتزام بالعلاقات البشرية وما تستوجبُهُ من واجباتٍ ومسئوليات!!؟

إن التكنولوجيا عالمٌ لا نهايةَ لهُ ولا حدود. وهناكَ ملايينُ الأمثلةِ التي استُخدِمَ فيها الإنسانُ الآليُّ لخدمةِ البشَر، فهناك فندق كاملٌ، يمتلكُهُ رجلُ السياحةِ اليابانيُّ الأشهر "هيديو سوادا"، يستخدمُ عمالةَ آلية، باستثناءِ عددٍ قليلٍ من العاملينَ من البشَر، فموظفُ الاستقبال آليٌ، وحاملُ الحقائبِ آليٌ، والمطعمُ والمطبخُ ليسَا إلّا آلاتٌ نضعُ لها المالَ، فنحصلُ على ما نريدُ من طعامٍ وشرابٍ. وهناك أيضًا المصانعُ والمعاملُ ودور المسنّين، والمستشفيات والأسواق التجارية، حيث حلَّ الإنسان الآلي بديلًا للبشر. هناك أيضًا ثورةٌ تكنولوجيةٌ في مجالِ علمِ النّفس، أذكُرُ من ذلك- على سبيل المثال- شابين قامَا بتطوير تطبيقٍ يمكّنُكَ من الدردشة مع كائنٍ افتراضيّ يستمعُ لمشاكلك، ثمّ يقومُ بتقديمِ النصحِ لك. وعلى حسَبِ ما ذكرَ مخترعَا هذا التطبيقِ، فإنَّ ما يميزُه أنه متاحٌ لتقديمِ النصحِ لكَ على مدارِ أربعٍ وعشرينَ ساعةً يوميًّا، وأنه قليلُ التكلفةِ مقارنةً بزيارة العيادة، فإن تطوّرتْ مشكلتُك بَعد ذلك فَلكَ أن تطلبَ الحديثَ مع دكتورٍ نفسيٍّ "حقيقي". ولقد تنبأت الأفلامُ السينمائية منذ القِدم بكل ما أصبح اليوم واقعًا.

لا يُقلقني وجودُ ثورةٍ تكنولوجية، وأوقن بأنه لا بديلَ عن البشر، وبأنه سيبقى للمشاعر الإنسانيةِ رونقُها وسحرُها، كما أنه لا تكاثر ولا إنجابَ بشريًّا إلا من بشر. ولكنْ يجبُ علينا أن نسخِّرَ تلك التكنولوجيا لخدمتِنا وتيسيرِ حياتنا وتخفيف الأعباءِ والضغوط التي نواجهها، لا لنتحول لأشخاص كسالى واتكاليين ومنعزلين؛ إن الإنسان كمخلوق إلهيّ لا يمكنُ بحالٍ من الأحوالِ أن يقارَنَ أو يُستبدَلَ أو يتساوى بشيءٍ من صنعِهِ هو نفسِهُ، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: {هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. [لقمان - ١١]

مما لا شك فيه أن العياداتِ النفسيةَ ستشهدُ مستقَبلًا أنواعًا جديدةً من المشكلات، وسنجدُ مثلًا من تقول شاكيةً: "زوجي يخونُني مع دمية!!"، أو يقول أحدُهم: "أشعر بأنني أحبُّ المرأةَ الآليةَ ولكنّها لا تبادلُني هذا الحبّ!"، هذا إذا لم تختفِ العياداتُ النفسيةُ التقليديةُ بعد أن يحتلَّ مكانَها الدكتور النفسي الآلي، فإذا ما نجح العلماء في تطوير هذا الآلي، وباتَ لديهِ من الذكاءِ العاطفيِّ والبشريِّ ما يجعله أقرب إلى البشر، فهل من الواردِ أن أراه هو بشخصِهِ في زيارةٍ إلى عيادتي؟

إعلان