إعلان

قضاء التخطيط وقدر المراقبة

قضاء التخطيط وقدر المراقبة

أمينة خيري
09:00 م الإثنين 30 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الفساد لا ينتهي. يتقلص، يتوسع، ينكمش، يتمدد، لكن كلمة النهاية لا تعرف طريقها إليه طالما نحن على قيد الحياة. حاكم مسؤولي القاهرة الجديدة، وابحث في ملفات الإنشاءات، ونقب في أغوار المقاولين وملفات المهندسين، وألق التهمة على هذا أو ذاك. ضع فلانا في خانة الاتهام، واعتبر علانا كبش فداء فيما جرى في القاهرة الجديدة يوم ضربت السيول.

ويوم ضربت السيول والأيام التالية، لم تضرب مواسير وتنهار جدران وتتفتت أسقف وتغرق جراجات وبدرومات فقط، لكن ضربت ينابيع النقاشات وتفجرت أسهم الاتهامات كعادتنا في كل مصيبة، كبيرة كانت أم صغيرة. لكن الحقيقة أن السجالات التي دارت في إطار علاقتنا- أو بالأحرى انعدام علاقتنا- بالتخطيط والدراسة والتفكير المستقبلي هي الأقرب لقلبي وعقلي.

كيف تم تشييد ما يعرف بالقاهرة الجديدة (مع العلم أن القاهرة الجديدة ليست إلا نموذجًا بين مئات وربما آلاف)؟

هل جلس وزراء ومسؤولون ورجال أعمال، وقالوا يلّا نعمل القاهرة الجديدة؟

وهل قرارهم عمل قاهرة جديدة صاحبه تخطيط مستقبلي، ودراسات متأنية للمشروع المزمع إقامته وشكله بعد 15، 20، 25 عامًا؟

أعداد السكان المتوقعة، شبكة المواصلات العامة المطلوبة، شبكات الطرق الموصلة إلى الموقع وسعتها الاستيعابية، شبكات الصرف... إلخ.

ومع العلم أن حجم السيول لم يكن متوقعًا، فما جرى في القاهرة الجديدة وغيرها من الأماكن في مصر بدرجات متفاوتة يطرح أسئلة كثيرة عن موقع التخطيط من ثقافتنا وتفكيرنا.

وإذا كانت ظروف أغلبنا الاقتصادية والاجتماعية وكذلك الثقافية تقف حائلاً بيننا وبين التخطيط، لا سيما طويل المدى، فماذا عن أولي الأمر؟

أولو الأمر في كل زمان وفي كل مكان حين يقررون إنشاء مدينة أو جامعة أو مستشفى أو ما شابه، كيف يتخذون القرار؟ ولماذا؟ وبناء على ماذا؟

أخشى ما أخشاه أن نكون ماضين قدمًا في الطريق نفسه. ننشئ ونشيد، ثم تحدث أزمة أو كارثة، فنمسك في خناق المسؤول الذي يتصادف وجوده حينئذ، وهلم جرا.

وقد جرى العرف أن نلصق جانبًا من الأزمات والكوارث بالقضاء والقدر. وبالطبع فإن كل ما يحدث هو قضاء وقدر، كما أن الحذر لا يمنع القدر، لكن بعضًا من تخطيط مستقبلي لا يضر.

الصرعة الجديدة في شركات البناء والتشييد العقاري أن تطلق على نفسها "مطورا عقاريا". الاسم بالطبع رنان وجديد، لكن هل يعني ما هو أكبر أو أعمق أو أبعد من مجرد بناء عدد من الوحدات السكنية، أو التجارية، أو الترفيهية ذات واجهات مبهرة ومساحات خضراء مهندمة وربما مسابح وملاعب جولف؟

هل التطوير العقاري يشمل كذلك التخطيط لمواجهة ما قد تتعرض له العقارات من كوارث طبيعية أو تلك التي من صنع الإنسان؟

حين اندلعت النيران في برج "جرنفيل" السكني في غرب لندن الصيف الماضين قامت الدنيا ولم تقعد، لأن السكان كانوا قد اشتكوا قبلا من سوء قواعد السلامة الخاصة بالحرائق، ومن استخدام مواد طلاء قابلة للاشتعال، وعدم خضوع المبنى للصيانة الدورية اللازمة.

بعدها اتخذ المسؤولون إجراءات صارمة لإخضاع المباني المشابهة لإجراءات رقابة وصيانة مكثفة، مع محاسبة الشركات التي كانت مسؤولة عن الصيانة والطلاء وتطبيق معايير السلامة في المبنى المنكوب.

المقارنة بين مصر وبريطانيا غير عادلة، لكن لا يضر أبدًا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. وإذا كانت مصر تعوم على بحور من فساد عقود مضت، وتسكن بيوتًا وأحياء وتركب مواصلات وتقود سيارات وتستخدم طرقًا أغلبها يسير ببركة دعاء الوالدين، فربما حان الوقت أن يكون البناء الجديد على مياه بيضاء لا يعكر صفوها انعدام ضمير هنا، أو شيوع فساد هناك، أو انعدام تخطيط هنا وهناك، وإلا فكأنك يا بوزيد ما غزيت، وكأن القاهرة الجديدة تستنسخ نفسها.

كثيرًا من التخطيط، كثيرًا جدًا من المحاسبة والمراقبة، ولنترك البركة والقضاء والقدر لإرادة صاحبها.

إعلان