إعلان

السعادة في قرية دندرة (2)

السعادة في قرية دندرة (2)

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأربعاء 18 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذهبت لأتحدث في جلسة حوارية مفتوحة بمنتدى دندرة الثقافي الرابع، بقرية دندرة بمحافظة قنا، حديثًا نظريًا عن السعادة "المفقودة" التي تكلم عن أشكالها وصورها المختلفة رجال الدين والفلاسفة والأولياء، ورسموا سبل الوصول إليها، دون أن يقول أحدهما لأتباعه وتلاميذه ومريديه: "أنا حقًا سعيد".

وهذا أمر ليس بمستغرب؛ فما أبعد المسافة دائمًا في حياة الإنسان بين ما يتمناه، ويحلم به، وما يصل إليه. بين ما يقوله على لسانه ويدعو إليه، وما يعيشه ويمارسه في الواقع، ويشعر به في باطنه؛ ولهذا وجدنا الأمير والشاعر الجوال في مسرحية "الحب عن بعد" لأمين معلوف، يخاطب جمهوره وأصدقاءه، فيقول لهم: "لكم تغنيت بالسعادة، وسعيدًا ما كنت قط/ بالسعادة لكم تغنيت، وسعيدًا ما كنت أبدًا".

ولكني على النقيض ممن تحدثوا عن السعادة دون أن يعيشوها ويصرحوا بأنهم سعداء، ذهبت لأتحدث للناس عن السعادة، وعدت سعيدا بالفعل؛ بفضل ما شاهدته وسمعته، ووقفت عليه من ثراء للإنسان والمكان هناك، وباكتشافي فلسفة ورؤية وملامح الخطاب والمشروع الثقافي المميز الذي يتبناه "مركز دندرة الثقافي" الراعي للمنتدى.

وهو مركز ومؤسسة ثقافية أهلية، تأسس عام 1997، بهدف ترسيخ وتنمية دعائم ومقومات وعناصر التراث الثقافي في جنوب مصر، وإبراز خصوصية المكان، والطاقات الإبداعية للإنسان القاطن هناك، ويقوم برئاسته ورعاية أنشطته وتمويلها الأمير هاشم بن الفضل الدندراوي، أمير قبائل وعائلات الأسرة الدندراوية.

وهو رجل أصيل كريم، يؤمن- كما قال في كلمته في الجلسة الافتتاحية للمنتدى- أن السعادة لن تكون متاحة للإنسان إلا بالتخلص من أمراض القلوب، وبشكر الله على النعم القليلة، لفتح الباب لمزيد من العطاء والنعم؛ فالرضا هو المقوم الأساسي للسعادة.

وهذا الرضا- كما قال الأمير هاشم- ليس سلبيًا يدعو إلى الاستسلام لأمراض الواقع والتخلف والقعود عن العمل، بل هو رضا إيجابي فاعل يؤدي بصاحبه إلى العمل بإخلاص من أجل التغيير نحو الأفضل، تحقيقًا لغاية وجود الإنسان، وهي خلافة الله وإعمار الأرض.

وكما ترتبط السعادة- في تصوره- بالرضا، وتحقيق غاية وجود الإنسان بخلافة الله على الأرض وإعمارها، فهي تتحقق أيضًا بالعطاء وخدمة الناس، والارتقاء بهم ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، والسعي لإسعادهم؛ فالإنسان الذي تم بناؤه على أسس سليمة، يحقق غاية وجوده، ويصبح قيمة إنسانية وإضافة لمجتمعه ووطنه، وهو لذلك يستمد السعادة من ذاته، لينشرها حوله.

تلك هي ملامح "التصور الدندراوي للسعادة" كما شرحها الأمير هاشم بن الفضل الدندراوي في كلمته بالجلسة الافتتاحية للمنتدى الثقافي الذي عقد يومي 13 و14 إبريل الجاري، بقرية دندرة بمحافظة قنا، تحت عنوان "السعادة" وبحضور جماهيري تجاوز آلاف البشر.

ولقد كان من أهم مصادر سعادتي الشخصية التي صرحت لكم بها اكتشافي أن هذا "التصور الدندراوي للسعادة" ومعه كل أدبيات الأسرة الدندراوية قد تجاوز مرحلة الطرح النظري، لمرحلة الفعل والتطبيق على أرض الواقع، عبر أنشطة مركز دندرة الثقافي، التي تهدف إلى "بناء إنسان متكامل، يضيف لمجتمعه، ويصبح دعامة مشروع التنمية الشاملة في وطنه، وهو البناء الذي يتم من خلال مسارات خمسة.

أولاً: المسار التعليمي الذي يهدف إلى بناء الإنسان وتنميته خلقيًا وتعليميًا واجتماعيًا وثقافيًا، عبر مركز دندرة لتنمية الطفل، ومدارس دندرة للتأصيل المعرفي، التي تعمل بالتوازي مع المدارس الحكومية، وليست بديلاً عنها، وباستخدام برامج مصممة خصيصا لكل فئة عمرية.

ثانيًا: المسار الثقافي، ويهدف إلى ترسيخ القيم الأصيلة في المجتمع، والمحافظة على التراث الثقافي الصعيدي، وإبراز تميزه وخصوصيته، وما فيه من فنون وحرف يدوية، ومواهب وقدرات إبداعية، ومحو كل ما علق في المجتمع من موروثات ثقافية سلبية. ويتم ذلك من خلال عقد محاضرات وندوات دورية، ومنتدى ثقافي سنوي يناقش الموضوعات الثقافية، ويتيح للمثقفين والمبدعين منصة لعرض إمكانياتهم الفكرية وطاقاتهم الإبداعية، والتفاعل مع الجمهور الصعيدي المُتعطش للثقافة والفن والمعرفة.

ثالثًا: المسار البحثي، ويهدف إلى بناء باحث علمي ومفكر مبدع، يتصدى بالبحث لمشكلات واقعه ومجتمعه، ويشارك في كافة المحافل العلمية. ويتم ذلك بعقد محاضرات حول التفكير العلمي، وكيفية كتابة الأبحاث العلمية، وتنظيم مسابقات بحثية، وطباعة ونشر الأبحاث العلمية لتشجيع الباحثين.

رابعًا: المسار الاجتماعي، ويهدف إلى توطيد العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية والقبلية، والحد من التعصب الديني والاجتماعي والقبلي، ونشر قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر. ويتم ذلك عبر عقد لقاءات تضم كل فئات المجتمع بكافة أطيافه، للوصول إلى مجتمع متماسك.

خامسًا: المسار البيئي، ويهدف إلى الحفاظ على البيئة، وتحسين علاقة الإنسان بسياقه البيئي، وعدم استنزافه أو هدره وتشويهه. ويتم ذلك من خلال تنفيذ مشروعات بيئية بتمويل من المركز، ونشر ثقافة استخدام الطاقة المتجددة، وعقد محاضرات بيئية دورية.

ولكل هذا أقول: لقد منحتني دندرة وناسها ومركزها الثقافي، بعد وقوفي على كل تلك الرؤى والفاعليات والأنشطة، ومشاهدة ثمارها المتحققة في المكان والإنسان هناك- أسبابًا متعددة للسعادة؛ فقد ذهبت إليهم لأتحدث نظريًا عن السعادة في ظل لحظة صعبة من تاريخ بلادنا ومنطقتنا، نبحث فيها جميعًا عن باب للخروج من متاهة التردي العام، فعلموني درسًا في صنع السعادة العملية، التي لا تكون إلا بالخروج من أسر الذات، والتفاعل مع الناس، والعمل بإخلاص وتجرد على الأرض لخدمة المجتمع والوطن.

ولهذا كم أتمنى أن يتم تعميم تلك التجربة، ليصبح لكل قرية ومدينة في بلادنا مركز دندرة ثقافي خاص به، يتبنى فلسفة ورؤية وأهدافا وآليات مركز دندرة الثقافي في قنا، ولكنه يحمل اسم القرية أو المدينة التي يوجد بها، ويمارس نشاطه تحت رعاية الأكاديميين والمثقفين المتحققين ورجال الأعمال من أبناء كل قرية والمدينة، الذين ينبغي عليهم القيام بمسؤولياتهم الاجتماعية والثقافية تجاه مجتمعهم، لسد النقص وإصلاح القصور في أداء مؤسسات الثقافة والتعليم الرسمية.

إعلان