إعلان

مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي(2-4)

مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي(2-4)

د. عبد الخالق فاروق
09:00 م الخميس 12 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يروي لنا(د. حامد عمار) شيخ وعميد التربويين العرب في سيرة حياته الرائعة، كيف كان الوضع عسيراً على أبناء الفقراء عام 1928 لكي يلتحقوا بالتعليم الأولي(10)، ويشير الدكتور حامد عمار كذلك إلى حقائق الوضع التعليمي في البلاد عام 1923، حيث كانت نسبة الأمية بين السكان في حدود 90%، وكان التعليم حتى ذلك الحين يقتصر على كتاتيب تحفيظ القرآن وصحن الجامع الأزهر(11).

ومع صدور قانون التعليم الإلزامى عام 1924 تحت مسمى "المدرسة الأولية"، ومدته الدراسية أربع سنوات، يقول عميد التربويين العرب عنها إنها مسدودة الأفق غير مفتوحة على ما بعدها من مراحل، وتشرف عليها مجالس المديريات بالمحافظات، كل بحسب إمكانياته، بينما ظلت المدارس الابتدائية والثانوية– المحدودة العدد جداً وقتئذٍ– تقع تحت إشراف وزارة المعارف العمومية(12).

وحتى يتبين حجم ونوعية وتواضع القطاع التعليمي في مصر عام 1926، يكفي أن نشير إلى أن عدد الطلاب المتقدمين للشهادة الابتدائية من المدارس الحكومية لم يكن يزيد على 3024 تلميذاً، ومن المدارس الحرة (الخاصة) نحو 5533 تلميذاً، كما بلغ عدد المتقدمين للحصول على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1931 من المدارس الحكومية نحو 4985 تلميذاً، ومن المدارس الحرة (الخاصة) نحو 4542 تلميذاً (13)، وقد وصف "د. طه حسين" التعليم الخاص في ذلك الوقت في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938 بأنه (كان مصدر فساد للتفكير ومصدر فساد للخلق، ومصدر فساد للسيرة العامة والخاصة)، وطالب بزيادة إحكام وإشراف الدولة عليه (14).

وما يؤكد دور وأثر عامل المجانية في زيادة أعداد المتعلمين، ما حدث عندما أقرت حكومة الوفد عام 43/1944 قانون مجانية التعليم في المرحلة الابتدائية، فزاد أعداد الطلاب الملتحقين بهذه المرحلة من 43 ألف طالب وطالبة ذلك العام، إلى 65 ألفاً عام 45/1946، أى بمعدل زيادة 50% خلال عامين فحسب (15).

أما طلاب الجامعات المصرية الثلاث في ذلك العام (45/1946)، فلم يكن يزيد عددهم على 14377 طالباً وطالبة، ولم تزد نسبة الطالبات بينهم على 5.2% (16).

أما طلاب مرحلة البكالوريا (الثانوية العامة) فلم يكن يزيد عددهم ذلك العام على 45 ألف طالب وطالبة في مجتمع كان قد تجاوز عدد سكانه 16 مليون نسمة، أي بنسبة أقل من 0.3% من السكان، وهو ما حدا بحكومة الوفد مرة أخرى عام 1950 إلى إصدار قانون جديد يقر بمجانية التعليم في مرحلة البكالوريا التعليمية من أجل تعزيز فرص الفقراء في التعليم، كما جاء في المذكرة الإيضاحية المرفقة بمشروع القانون.

وبعد مرور أكثر من مائة عام على بداية تجربة "محمد علي باشا" في مجال إدخال نظم التعليم المدني الحديث لم تكن الصورة قد تحسنت على الإطلاق. فوفقاً لنتائج التعداد العام للسكان عام 1947، تبين أن من بين سكان مصر البالغ عددهم 16 مليون نسمة كان عدد الأميين قد تجاوز 10.9 مليون إنسان (بما يشكل 68% من السكان)، بينما من يقرأون ويكتبون لا يزيدون على 2.9 مليون شخص (بنسبة 18% فقط)، أما الحاصلون على تعليم متوسط فلم يكن يزيد عددهم على 113 ألف شخص (بنسبة 0.7% من السكان)، وأخيراً فإن الحاصلين على تعليم جامعي أو عالٍ بلغ عددهم 57 ألفاً (أي بنسبة 0.3% من إجمالي السكان)(17).

وعلى الرغم من صدور قانون "مكافحة الأمية ونشر الثقافة الشعبية" رقم 110 لسنة 1944 فقد ظلت الأمية تتفاقم، وكذلك صدور قانوني مجانية التعليم الابتدائي عام 1943، ومجانية التعليم الثانوي عام 1950، فقد ظلت الآفاق التعليمية في مصر خصوصاً للأغلبية الساحقة من أبناء العمال والفلاحين وصغار الموظفين والحرفيين في المدن مسدودة، والطرق مغلقة تنتظر إجراءات وسياسات عملية ذات طبيعة جذرية.

وحتى تتبين حقيقة الأعباء المالية الملقاة على عاتق الأسرة المصرية الراغبة في تعليم أبنائها حتى مرحلة التعليم العالي أو الجامعي، يكفي أن نعرف أن الرسوم والمصروفات الدراسية للكليات الجامعية القائمة وقتئذٍ كانت كالتالي:

▪ كلية الطب 40 جنيهاً في العام الدراسي.

▪ كلية الحقوق 30 جنيهاً في العام الدراسي.

▪ كلية الآداب 20 جنيهاً في العام الدراسي.

علماً أن ثمن فدان الأراضي الزراعية في نفس الوقت كان يتراوح بين 40 جنيهاً و50 جنيهاً (18)، ولم يكن مسموحاً بالدخول المجاني لهذه الكليات سوى لـ10% من أبناء الفقراء، شريطة التفوق في شهادة (البكالوريا) والإتيان بشهادة فقر رسمية..!!

وهكذا ظل عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم الجامعي في مصر أقل من 20 ألفاً عام 1952، أخذ في الزيادة حتى قارب عام 60/1961 نحو 87 ألفاً، وبمجرد إقرار مبدأ مجانية التعليم الجامعي عام 1962، قفز العدد إلى 152 ألف طالب وطالبة في العام الدراسي 63/1964 (19).

إذن إذا جاز لنا استخلاص نتائج تطور أوضاع التعليم في مصر طوال القرنين الماضيين نستطيع أن نستخلص حقيقة أساسية، وهى أن الجهود الأهلية ظلت هى البدايات الأولى لحركة التعليم في البلاد، سواء في صورة " كتَاتيب " لفك رموز الأبجدية وتحفيظ آيات القرآن، أو لدى الكنائس والإرساليات الأجنبية، وفي إنفاق الوقف الإسلامي أو القبطي على هذا المستوى المتواضع من التعليم الديني في الأساس، ولم يشهد هذا التعليم تطوراً حقيقياً إلا حينما جاءت الدولة الحديثة منذ "محمد علي باشا" لمساندة هذا التعليم وفتح آفاق جديدة له، حتى بعد انهيار تجربة "محمد علي باشا" بعد عام 1840، وتفكك النظام التعليمي الحديث بعده، فإن عودة الروح إلى هذا القطاع الحيوي قد ارتبط أيضاً في علاقة طردية باستعادة الدولة المصرية لعافيتها في عهد الخديوي "إسماعيل" والرئيس "جمال عبدالناصر".

فالوعي بأهمية دعم التعليم قد تزامن مع بحث مصر عن ذاتها خاصة بعد "الاستقلال" الجزئي عن الاحتلال عام 1923 والإقرار دستورياً بحق المصريين في التعليم وفقاً للمادة (19)، حتى لو كان في مرحلته الأولية، وهو المسار الذي استمر بإقرار مجانية التعليم في مرحلته الابتدائية عام (1943) والثانوي عام(1950) ثم الجامعي عام (1962).

وفي المقابل فإن أبرز ما ميز "التعليم الخاص" في كل هذه المرحلة الممتدة منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف العقد السابع من القرن العشرين (1974) الذي نفضل أن نسميه "التعليم الأهلي" مجموعة من الخصائص والسمات لعل في مقدمتها:

1- أنه كان وليد مبادرات فردية أو جماعية عززتها روح وطنية مصرية.

2- أنه لم يكن أبداً مشروعاً ربحياً أو هادفاً للربح بقدر ما كان أداءً لأدوار اجتماعية وثقافية لعدد كبير من المصريين الأغنياء منهم أو متوسطي الحال.

3- أنه قد تعزز بمظلة قوانين وأعراف الوقف الديني (الإسلامي أو المسيحي)، فإذا تأملنا واحداً من أبرز هذه الجهود التعليمية الأهلية والمتمثل في إنشاء جامعة القاهرة عام 1908، نجدها قد بدأت بدعوة من بعض القادة الوطنيين من أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد، فاستجابت لها " الأميرة فاطمة إسماعيل " حفيدة الخديوي إسماعيل والأمير يوسف كمال، بالتبرع بالأرض التي أقيمت عليها مباني الجامعة وعززتها وزارة الأوقاف عبر وقف إيرادات 549 فداناً وتقديم إعانة سنوية من أجل إنشاء ودعم هذا المشروع، وتكاتف مئات من المصريين البسطاء والموسرين بالتبرع من أجل إنشاء هذه الجامعة، والتي بقدر أهميتها بقدر خضوعها للظروف الاجتماعية والمادية القائمة في المجتمع، فلم ينضم إليها سوى أبناء المقتدرين وبعض أبناء الفقراء محدودي العدد ووفقاً لشروط قاسية.

إهــــداء.. إلى روح أستاذ الأجيال. د. حامـــد عمار

إعلان