إعلان

لويس "جميل".. سناء "جريس"!

لويس "جميل".. سناء "جريس"!

خيري حسن
09:00 م السبت 31 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ـ النهار بيطلع بعد ليل ويمر.

ـ والأيام بقى طعمها مر.

ـ وأنا مستني عليه تمر.

ـ حبيبتي قلبي الحلوة.. سناء!

كلمات كنت أسمعها، وكأنها موال حزين مؤلم، تكشف حروفه عن جرح ينزف داخل قلب صاحبه ولم يندمل. كان يغنيها رجل اسمه الحقيقي "محمود" لكنه عرف وسط الأهالي باسم (الدرويش العاشق) عمره تعدى الخمسين عاماً. طويل القامة، ضعيف البصر، لحيته طويلة، ويرتدي جلباباً مهترئاً، وفوقه بالطو أسود رث الشكل، لا يخلعه لا صيفاً ولا شتاءً. وفي يده عصا صغيرة، يمسكها، ليضرب بها يده الأخرى بقسوة شديدة. يجلس على جذع نخلة عتيقة مائلة بعض الشيء، على ضفة ترعة كبيرة، كانت تربط ما بين قريتنا في شمال صعيد مصر وقرية أخرى تبعد عنها مسافة ليست قليلة.

على مقربة منه كان يأتي رجل عجوز اسمه "دياب" كل صباح، مصطحباً معه بقرة سوداء، وحماراً مريضاً بلغ من العمر أواخره، وفي يده رغيفان من الخبز الرديء، وقطعتان من الجبن البلدي القديم الذي يسرح في القلب منه الدود. والقليل من السكر والشاي.

وكان بعدما ينتهي من وضع بقرته وحماره في مكانهما، يبدأ في جمع الحطب، وفروع الشجر الملقاة على الترعة. ثم يشعل النار فيها، لعمل "براد" شاي ساخن وقاتم وطعمه مر، ويذهب به في كوب بلاستيك. والطعام في يده، ليضعهما بجوار "الدرويش العاشق"، ويغادر المكان في هدوء. والدرويش- في العادة- يرمقه بنظرة حادة، ثم يلقي بوجهه الشاحب إلى الناحية الأخرى، بعدما يكون قد مد يده وأمسك بقطعة الخبز وكوب الشاي بفرح وسعادة.

يتركه عم "دياب" وهو يودعه بكلمات باردة معتادة، أما الدرويش فلا يرد عليه؛ لكنه أحياناً يبادله ابتسامة عاجزة، بلا معنى، أثناء جلوسه على جذع النخلة المائل. وعلى فترات متباعدة، يترك الجذع ويترجل على الترعة ذهاباً وعودة، بخطوات مسرعة. وعيونه تائهة، ولسانه لا يتوقف عن قوله المعتاد الذي ينتظر فيه "سناء" ويحفظه أكثر من اسمه!

هذا المشاهد المتكررة كنت أراها كثيراً، لأنني كنت- مع باقي تلاميذ القرية- نمر من هذا المكان كل صباح، للوصول إلى المدرسة الإعدادية المشتركة التي كنا نذهب إليها في القرية المجاورة لنا. وذات يوم جلست إلى العم "دياب" أسمع منه حكاية الدرويش العاشق.

قال وعلى وجهه ملامح حزينة: منذ سنوات عديدة أحب هذا الذي تراه أمامك، فتاة جميلة من القرية المجاورة، وكان يلتقيان بجوار جذع هذه النخلة التي كانت تسقط عليهما رطباً جميلاً. وكان للفتاة أخ متعجرف وقاسي القلب، أصابه الكبر ورفض أن تحب أخته هذا الشاب الفقير. وذات يوم تربص بهما، ومعه ثلاثة من أبناء عمومته، وانتظروا تحت النخلة، وعندما وصلوا أخذوه هو عنوة، وأوسعوه ضرباً، وألقوا به في مياه الترعة الآسنة. وبعد دقائق أخذوا الفتاة، إلى مكان مجهول، واختفت منذ ذلك التاريخ ولم تظهر بعد. قيل وقتها إنهم جاءوا بها في جنح الظلال بعدما قتلوها، ودفنوها تحت جذع النخلة نفسها، لتكون شاهداً على القتل، مثلما كانت شاهداً على الحب. أما الشاب "محمود" فعثر عليه أحد المزارعين في حالة إغماء تام، وفاقداً الوعي لساعات، والذاكرة لسنوات. بعدها ظهر في هذا المكان، ولا يغادره، وكأنه في انتظار، من لن يعود أبداً.

ظلت قصة الحب المدهشة تلك عالقة في ذهني لسنوات طويلة، وعندما التقيت بالكاتب الراحل لويس جريس (1928- 2018) في بيته بحي جاردن ستي وسط القاهرة، حكيت له قصة الغرام والانتقام والجنون التي كانت بين "محمود" و"سناء" حتى أعرف منه.. هل يفعل الحب بنا، ما فعله في هذا الشاب، لدرجة جعلته يعيش بلا عقل، مادام يعيش على سيرة الحب وذكراه الجميلة؟، يومها اعتدل. وقال وهو يضحك: ولكنني لم أفقد عقلي بسبب حب "سناء" مثل بلدياتك الذي تتحدث عنه! قالها وجسده كله يهتز من الضحك! قلت: وهل في الحياة حب، يستطيع أن يفعل بصاحبه كل هذا الجنون والعشق؟ رد قائلاً: نعم.. الحب يصنع المعجزات. الحب يقلب الليل إلى نهار. والظلام إلى نور. والصخب إلى سكون. والعقل إلى جنون. وأنا عشت هذه التجربة مع الفتاة التي كان اسمها" ثريا يوسف عطالله" الشهيرة بالفنانة سناء جميل، أحببتها عندما رأيتها صدفة عام 1959 في دار عرض سينما بشارع سليمان باشاـ طلعت حرب حالياً بوسط القاهرة- عندما لمحتها تخرج من العرض ويلتف حولها الجمهور. ولم أكن أعرف يومها من هي؛ إلا عندما قال لي صديقي الصحفي جمال كامل: هذه ممثلة اسمها "سناء جميل"! ومر على هذا اللقاء فترة كنت معتقداً أنها مسلمة وأنا قبطي. وقتها اتخذت قراري، بأن اختلاف الدين لن يمنعني من حبها، ولو استدعى الأمر سأشهر إسلامي للزواج بها. قلت: إلى هذا الحد جرفك تيار الحب؟ قال هو اجتاحني وزلزل كياني، وأفقدني عقلي تماماً، وأصبح قلبي هو الذي يقرر مصير حياتي وقتها.

في مطلع الستينات شاء القدر أن ألتقى بها مرة أخرى- صدفة- في حفلة لا أذكرها الآن. يومها تعرفنا وفي نهاية السهرة قالت لي: معاك ثلاثة تعريفة- وكانت ثمن المكالمة التليفونية حينذاك- قلت نعم. قالت: اكتب هذا الرقم 20148 هذا تليفوني.. سأنتظرك نتحدث في الصباح. ومنذ ذلك الصباح وأنا أتحدث معها. قلت ولكنها ماتت منذ سنوات. رد وفي عينيه دمعة حائرة: لكنها لم تمت في قلبي وأتحدث من خلاله إليها. قلت: وماذا كنت تقول لها وهي على قيد الحياة. رد: لم أكن أتحدث إليها كثيراً.. فقط كنت أنظر إلى وجهها الجميل، حتى يرتاح قلبي وتصفو نفسي، وتطمئن روحي. قلت: وبعد رحيلها ماذا تقول لها؟ نظر إلى لوحة لها معلقة أمامنا، وقال: "أناديها كل صباح.. عزيزتى سناء.. تركتني وحيداً ورحلت. تأكدي أنني أعيش على ذكراك الجميلة، إلى أن نلتقي عما قريب بإذن الله.. إلى اللقاء يا سناء!

قلت: أنت الذى تعلمت في الجامعة الأمريكية وسافرت إلى أمريكا عدة سنوات وعملت في بلاط صاحبة الجلالة.. كيف وقع قلبك على قلب فتاة- بمقاييس الجمال- يراها البعض عادية؟ ابتسم بشدة، وقال: الحب ليس له علاقة بجمال الوجه والجسد. الحب له علاقة بجمال الروح. وسناء كانت روحها متقدة ومتفردة، لا تهدأ أبداً، روح فيها حياة. وأنا أحببت فيها هذه الروح المتميزة والمختلفة، وفي حقيقة الأمر أنني لا أعرف حتى اليوم، ما الذي جعلني أحبها كل هذا الحب؟ قلت: لكنها كانت- بجانب موهبتها الفذة في التمثيل- صاحبة شخصية قوية، تتسم بالصلابة، والإصرار على النجاح والتضحية بأي شيء من أجل نجاحها؛ بدليل أنها فرضت على حياتكما عدم الإنجاب، من أجل فنها! أما أنت فيراك جمهورك من القراء وتلاميذك في مؤسسة روزاليوسف الصحفية، مرهف الأحاسيس ونقي المشاعر، وفي داخلك قوة وصبر وتواضع وحب للخير والسلام مع الآخر ومع النفس. رد وهو يضحك: وأنا كنت أرها كذلك. لقد كانت حبيبة صادقة ومخلصة في حبها لي. وكانت- أيضاً- زوجة ناجحة، تحب النظام في بيتها، وتعشق مطبخها، فلم يكن مثلاً في بيتنا زرار قميص مقطوع، أو قميص غير مكوى. وملابسي معلقة في الدولاب منظمة ونظيفة! كانت تهتم جداً ببيتها، مثلما تهتم بفنها. وتلك هي عبقرية سناء جميل التي أحببتها!

حديثي معه كان قد أوشك على الانتهاء عندما وجدته فجأة يسألني وأنا أودعه، قائلاً: لكنك لم تقل لى.. ما النهاية التي انتهت إليها حياة "الدرويش العاشق" في قريتك؟ قلت: عدت بعد مرور سنوات، غبت فيها عن قريتي، وبحثت عنه في نفس المكان، فلم أجده، ووجدت جذع النخلة لم يبق منه؛ إلا بقايا أصابها العفن. ومن بعيد لمحت شاباً قادماً، اقتربت منه وسألته عن العم "دياب" الفلاح العجوز، الذي كان يجلس في هذا المكان بجوار بقرته وحماره. رد متأثراً: مات.. منذ سنوات وأنا ابنه "محروس"، قلت: وأين "الدرويش" الذى كان يجلس على جذع النخلة؟ رد وهو ينظر إلى مكانه: بعد رحيل أبي.. وتخلفه عن حضوره المعتاد كل صباح إلى هنا، اختفى وترك مكانه وذهب ولم نعد نراه.

هز لويس جريس رأسه، وقال: أظنه ذهب إلى حبيبته.. فلم يعد لديه القدرة على الانتظار!

خرجت من بيته المواجه إلى نيل بحي جاردن ستي الراقي، وترجلت على الكورنيش القريب، فوجدت فتيات وفتيانًا يجلسون على ضفافه المستباحة بفعل الفساد؛ وتشير ملامحهم البريئة، وعيونهم الحالمة، وقلوبهم النابضة بالحب عن عشاق جدد، سيظهر من بينهم- حتماً- ذات يوم "درويش حب" جديد، يغنى- رغم ضباب المستقبل الكثيف أمامه- للحب أغنية، مثل التي غناها الشاب "محمود" عندما أحب "سناء" ومثل التي عاشها الراحل لويس جريس مع الراحلة سناء جميل.

هكذا يكون الحب، فهو ليل ونهار. سفر وانتظار. عزة وانكسار. هزيمة وانتصار. وفي النهاية.. أيام بتمر !

إعلان