إعلان

أربعون مليون جنيه كاش

أربعون مليون جنيه كاش

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 23 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذا هو المبلغ الذي حصل عليه لاعب الأهلي عبدالله السعيد مقابل التوقيع للزمالك. لا يشغلني إن كان اللاعب قد وقع لأكثر من نادٍ في نفس الوقت، فهذه مسألة يحسمها القانون. وما يهمني هو الأربعون مليون جنيه نقداً وعداً التي تسلمها اللاعب من مسئولي الزمالك.

عندما تتحدث عن أربعين مليون جنيه كاش، فأنت تتحدث عن ألفي رزمة من فئة المائتي جنيه، التي تبلغ قيمة كل رزمة منها عشرين ألف جنيه. إذا وضعت هذه الرزم الواحدة إلى جوار الأخرى في شنطة تستوعب عشرة رزم طولاً، وخمس رزم عرضاً، فإنك تحتاج إلى خمسين طبقة من الرزم حتى يكتمل الأربعون مليون جنيه.

كم حقيبة احتاجها مرتضى منصور لنقل المبلغ؟ وكم من الوقت استغرقه عبدالله السعيد في عد هذا المبلغ؟ وكم عدد الأفراد الذين استعان بهم لنقل هذه الثروة؟ وإلى أين تم نقل هذا المبلغ؟ لا أظن أنه تم إيداعه في أحد البنوك، فنظامنا البنكي لا يقبل مبالغ كبيرة مجهولة المصدر، ناهيك عن أن إيداعاً كبيراً كهذا باسم اللاعب المشهور كان له أن يكشف "صفقة القرن" قبل أن يكتشفها المسئولون في النادي الأهلي بكثير. هل المبلغ الكبير موجود في بيت أو مكتب أو في حفرة في قطعة أرض يملكها عبدالله السعيد؟ وهل ينام اللاعب الشهير مطمئناً إلى أن المبلغ الكبير في أمان؟ ماذا لو أن أحدهم سحب عدة رزم قليلة من بين الألفي رزمة، أو سحب ورقة واحدة من فئة المائتي جنيه من كل رزمة، هل سيلاحظ اللاعب الشهير هذا النقص؟ وهل يقوم النجم المحبوب بعد النقود يومياً ليتأكد من أنه لم يتعرض للخيانة؟

لا أقصد أن أحسد اللاعب الشهير، فهو يستحق أكثر من هذا المبلغ كثيراً، وهذا حقه، وحق موهبته التي نستمتع بمشاهدتها. وكل ما أقصده هو إظهار عبثية التعامل بالأموال الكاش، وما قد تجره على أصحابها من مشكلات لوجستية وأمنية ونفسية. المال والثروة شيء رائع، وهما المطمح الأساسي لعدد كبير من الناس، ربما أغلبهم. لكن عندما توجد الثروة في غير الشكل الذي من المفروض أن تكون موجودة فيه، فإنها تكف عن أن تكون نعمة، لتتحول إلى نقمة.

مسيرة تطور البشرية هي مسيرة التخفف من عبء تأمين الثروة التي تم جمعها بالفعل، حتى يركز الناس جهدهم لإنتاج المزيد من الثروة، فيصبحون أكثر ثراءً، وينعكس هذا إيجابياً على مجتمعاتهم.

في البدء كانت النقود من الذهب والفضة، وكان التجار يسافرون بين البلاد حاملين الأكياس الثقيلة التي تحوي ثرواتهم من العملات المسكوكة من المعادن النفسية. وكان الناس يغسلون العملات الذهبية في الطشت لتنظيفها، وكانوا يعدونها برصها أكواما متساوية فوق بعضها البعض. كان استخدام أوراق النقد بدلاً من العملات الذهبية نقلة كبيرة في تاريخ البشرية. تم اختراع ماكينات عد النقود، فلم يعد عد النقود عبئاً. بعد ذلك ظهرت الشيكات، والحوالات، ثم التحويلات البنكية، وها نحن نعيش عصر كروت الائتمان والتحويلات المالية عبر شبكة الإنترنت، ناهيك عن البيتكوين وغيرها من العملات الرقمية، التي أظنها عملية نصب كبرى، رغم وجود احتمال ضئيل لأن تمثل ثورة هائلة في عالم المال.

هكذا تطورت البشرية، فيما نحن مازلنا نعيش في عصر أوراق النقد الكاش. التعامل بالكاش يفرض علينا سقفاً في حجم الثروات التي نستطيع امتلاكها، أو التفكير فيها. تخيل لو أن عبدالله السعيد يساوي 400 مليون، وليس أربعين مليوناً؟ كيف كان للاعب أن يعد هذه الأموال؟ وكيف كان له أن ينقلها إلى مكان آمن؟ وأين هو هذا المكان الذي تأمن فيه على مثل هذه الثروة؟

أرى أن عبدالله السعيد يستحق أكثر من الأربعين مليوناً، ولكنه اكتفى بالمبلغ الذي يستطيع حمله بمعاونة أشقائه وأصدقائه المقربين. سهولة نقل وحماية وتداول الأموال، وانخفاض تكلفة كل ذلك، يطلقان العنان للتخطيط لتحقيق ثروات أكبر، تفيد أصحابها، وتفيد المجتمع أيضا. وحتى ننتقل من عصر الكاش إلى العصور التالية له، ستظل صفقاتنا تجري في حدود أكبر مبلغ يمكن وضعه في "زكيبة"، أما المليارات التي يتحدثون عنها في بلاد الخواجات من الجنسين الأبيض والأصفر، فستظل امتيازا للقليلين منا الذين يعرفون طريق البنوك.

إعلان