إعلان

سيد زيان.. قاللي زمانك مضى.. دوّر على غيري!

سيد زيان.. قاللي زمانك مضى.. دوّر على غيري!

خيري حسن
09:28 م السبت 24 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عصر كل يوم، ونحن أطفال صغار، كنا نذهب إلى مركز شباب قريتنا المتواضع في كل شيء، فهو عبارة عن حجرة صغيرة، مساحتها 4 / 5 أمتار. بلاطها قديم، وجدرانها ضربها الرشح بقسوة حتى المنتصف. وملحقة بمبنى الجمعية الزراعية. وكان للمركز مدير بلا موظفين، عيّن بوساطة عضو مجلس شعب بقرية مجاورة لنا، مما سهل له عدم الحضور، إلا مرة واحدة كل أول شهر، ومن ثم ترك مسؤولية متابعة نشاط المركزـ الذي لم يكن يزيد على ممارسة كرة القدم في ملعب محاط بالنخيل من كل جانب- للعامل الوحيد في المركز وهو (عم رزق) ابن قريتنا، ليدير كل شيء. يذهب كل يوم من الساعة الواحدة ظهرا، ويفتح بابه الخشبي على مصراعيه، في انتظار وصولنا فرادى وجماعات. وكان (عم رزق) رجلاً طيباً ومتوسط الثقافة، فهو يتابع باهتمام نشرة أخبار التاسعة التي كانت- وما زالت- تذاع على القناة الأولى، بعد برنامج حديث الروح ذائع الصيت.

كنت أذهب إليه كل يوم، وأجلس، وأتحدث معه كثيراً في موضوعات شتى. وكلما رآني قادماً إليه أجده يبتسم من بعيد، ويشير لي بيده قائلاً: "كاتب إيه النهاردة يا شاعر"؟

كان يقولها وهو يضحك لدرجة أن العمامة على رأسه كانت تهتز بشدة، ثم يتحرك في طريقه، للحجرة الكئيبة التي لا تحتوي إلا على كرة قدم وحيدة، وشبكة كرة طائرة مهترئة، وطرابيزة تنس طاولة مفككة من بعضها. في هذه اللحظة، أكون قد جلست، على المقعد الخشبي أمام المركز، في الوقت الذي يكون هو فيه، قد أشعل وابور جاز قديماً اعتلاه الصدأ، ليعد لنا (كوبيتين شاي يعدلوا المزاج) حسب قوله.

أثناء ذلك وعلى صوت ضجيج الوابور، كنت أسمعه يدندن بصوت جميل كله صدق وحزن ووجع قائلاً: "طلعت فوق السطوح أنده على طيري/ لقيت طيري بيشرب من قنا غيري/ صرخت بعلو صوتي/ وقلت يا طيري/ قاللي زمانك مضى دوّر على غيري". ثم يكرر الكلمات وكأنها دواء يعالج به جرحاً بداخله ينزف من عشرات السنين. وذات يوم سألته وأنا اضحك: يا عم رزق، هل أحببت في يوم ما؟ رد وهو يضع الشاي أمامنا، ويجلس وفى يده سيجارة، كان قد أشعلها من نار وابور الجاز. قائلاً: الحب يولد مع خلق البشرية، ولا يوجد إنسان لم يحب أو يحب"، ثم واصل كلامه قائلاً: لكنني عشقت هذا الموال، ليس لأنه يعاتب الحبيب على هجره؛ ولكن لأنه يعاتب الزمن على غدره. ثم ضحك وهو يزحزح عمامته إلى الخلف قليلاً، ونظر لشجرة كافور شاهقة بجوارنا، وقال: "الله يجازيه.. عمك سيد زيان هو الذي جعلني أتعلق، وأتألم وأنا أسمعه يغني هذا الموال في مسلسل الراية البيضا" ثم قال بتأثر شديد: "قاللي زمانك مضى دور على غيري" بعدها عدل عمامته، وأخذ طريقه ناحية ملعب الكرة الترابي القريب منا، ليفض اشتباكاً عنيفاً دار بين زميلين على فردة كوتشي مهترئة (باتا).

دارت الأيام دورتها، وفى عام 2001 التقيت بالفنان الكوميدي سيد زيان (1943 ـ 2016) لإجراء حوار صحفي معه. في البداية قلت له عن حكاية (عم رزق) وكيف استطاع هو بصوته القوى، الحزين، الذي كان يخاطب من خلاله ـ ربما دون قصد ـ المهمشين في المجتمع، معاتبا الحب وسنينه، والحبيب وحبيبه، والزمن وأنينه، حتى إن "عم رزق" كان كلما، شعر بغدر الزمن، تقمص شخصيتك وغنى: (طلعت فوق السطوح أنده على طيري) يومها سكت الفنان سيد زيان طويلاً، حتى ظننت أنه لا يريد الكلام. ثم عاد من صمته وفى نبرة صوته حزن بطعم الألم، وقال: "أنا مثل عمك رزق.. أرى أن عتاب الزمن أشد قسوة من عتاب الحبيب، لأن جرح الزمن وغدره ليس له علاج يداويه! يومها أنهيت معه مهمتي الصحفية، وتركته على نيل القاهرة بالقرب من بيته في شارع البحر الأعظم. وعدت من حيث أتيت أسير بمفردي على كورنيش النيل، وفى ذهني مشواره، الذي حاول من خلاله صناعة السعادة للجماهير التي أحبته وعشقت فنه.

هذا الفن الذي جعله يهجر حلم أبيه في الصغر، في أن يصبح قارئاً للقرآن الكريم الذي حفظه، ويتجه بموهبته للفن. انضم في بدايته للمسرح العسكري وبعده إلى فرقة الهواة وبعدها فرقة الفنانين المتحدين وفرقة نجيب الريحاني، لينطلق بعدها إلى سماء النجومية، بموهبة جبارة في التمثيل لم تستغل على الوجه الأكمل لها، وبصوت غنائي قوى أحبه جمهوره، وعشق نبرة الحزن التي فيه.

وفى عام 2005 عدت إلى نفس المكان في النادي النهري لنقابة المهن التمثيلية، لإجراء حديث صحفي مع الفنان أحمد بدير الذي طلب منى إجراء حوار مع الفنان سيد زيان، لرفع روحه المعنوية، بعدما ألمت به أزمته الصحية التي لازمته ما يقرب من 15 عاماً، وبالفعل أعطاني رقم هاتف زوجته (الزوجة الثانية) واتفقت معها على إجراء الحوار معه.

ذهبت إليه في مسكنه، حيث كان يسكن في الأدوار العليا المطلة على النيل. انتظرت أكثر من ساعة أنظر من وراء الزجاج للنيل الممتد أمام عيني، في انتظار أن ينتهي طبيب العلاج الطبيعي، المعالج له، من مهمته اليومية. بعد دقائق جاء الفنان الراحل "مظهر أبو النجا" الذي كان يزوره بصورة مستمرة، ويدخل إليه بضحكته و"لزمته الشهيرة" التي كان يقول فيها (يااا حلاوة) محاولاً إضحاكه، بعدما فقد النطق والحركة بسبب جلطة المخ التي أصابته في عام 2003.

"مظهر أبو النجا" جلس معي لدقائق ثم دخل إليه، بنفس الطريقة وبضحكة مجلجلة، هزت أركان المكان، ثم بعد 10 دقائق غادر حجرته، حتى يترك لي فرصة اللقاء معه. بعد خروجه دخلت إليه، فوجدته ممدداً بعض الشيء على سريره، وفى يده صحيفة لا أذكرها، وبجواره مجموعة أدوية مختلفة ومتعددة، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، باتساع نهر النيل المواجه لنا، لخصت كل شيء دون أن يتكلم، خاصة وهو يواجه صعوبة شديدة في النطق والحركة.

وقتها حاولت أن أتكلم طول الوقت دون توقف، عن أعماله الجميلة في الدراما والمسرح والسينما، وكان يستمع لي باهتمام، وابتسامة واضحة، ومذهلة على وجهه، ثم أشار لمن حوله، لكي يأتوا لي بواجب الضيافة! قلت له: شربت قهوة منذ دقائق في صالة الاستقبال. هز رأسه، وهو يشير بيده إشارة، فهمت منها أنه يريد أن أشرب مرة أخرى، وبالفعل حدث.

استمرت جلستي معه 30 دقيقة، كنت أنا أتحدث بمفردي، وهو يستمع وعينه لامعان، والصحيفة في يده، لكنه لم يستطع الرد أو التجاوب معي في الكلام.

وفى نهاية اللقاء، قبل أن أتركه لذكرياته الجميلة والحزينة، ومحنته العنيفة التي قاومها بشدة لسنوات طويلة، حتى نجح- قبل رحيله- في استرداد الكثير منها، تذكرت حكاية "عم رزق" وموال (طلعت فوق السطوح أنده على طيري) الذي كنت قد رويته له قبل سنوات.

وكيف أحب هذا الرجل القروي الطيب صوته، ومواويله وهو يغنى للحبيب والهجر والزمن. الزمن الذي كان دوماً يعانده. وأعدت على مسامعه الحكاية مرة أخرى وأنا ابتسم، فوجدته يذكرها- وهو يرد لي الابتسامة- رغم مرور عدة سنوات عليها. وبعد لحظات وأنا أتحدث إليه، لاحظت تطوراً مباغتاً ومفاجئاً في ابتسامته، فتحول من ابتسامة (فرح) إلى ابتسامة (حزن) مؤلمة، خاصة وأنا أردد أمامه بصوت هادئ الجملة التي تقول: "قاللي زمانك مضى دور على غيري"! وقتها غابت الابتسامة تماماً، وأدار وجهه الذي كساه الحزن عنى، ثم ودعني بإشارة بطيئة من رأسه ونظرة حزينة من عينيه، وأكمل بهدوء التفات وجهه للناحية الأخرى، وكأنه- بينه وبين نفسه- يعاتب الزمن.

إعلان