إعلان

كيف نشأت أزمة الدواء في مصر؟( 2-2)

كيف نشأت أزمة الدواء في مصر؟( 2-2)

د. عبد الخالق فاروق
09:01 م الخميس 22 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

 سيطرة الشركات الأجنبية على سوق الدواء

أدى هذا الواقع الجديد وسيطرة القطاع الخاص والشركات الأجنبية على صناعة الدواء في مصر طوال العقود الثلاثة الماضية، إلى بروز أربع ظواهر متلازمة هي :

الأولى: الزيادة المستمرة في حجم الاستهلاك المصري من الدواء، حيث زاد مـن 5ر593 مليون جنيه عام 1984 (بالأسعار الجارية)، إلى أن تجاوز عام (2007) نحو 0ر11 مليار جنيه، ثم إلى 28 مليار جنيه عام 2014، صحيح أن جزءاً من هذه الزيادة يعود إلى زيادة عدد السكان من ناحية، وزيادة الوعي الصحي لدى السكان من ناحية أخرى، بيد أن الشركات عـادة ما تقوم بعمليات تسويق وسياسات توزيع تدفع إلى مزيد من الاستهلاك الدوائي بكل عناصره.

الثانية: الانخفاض التدريجي لحصة شركات القطاع العام المملوكة للدولة في مبيعات السوق لصالح القطــاع الخاص والأجنبي والمشترك، بحيث انخفضت حصة القطاع العام من 80% في منتصف السبعينات إلى أقل من 20% في منتصف التسعينات ثم إلى 6% عام 2014، ومازال نصيبه يتجه للانخفاض عاماً بعد آخر.

الثالثة: الزيادة المستمرة في أسعار الدواء ففي عام واحد (1977) زادت أسعار الدواء بنسبة 30%، وبالتالي فإن حجم الاستهلاك الدوائي ومصاحباته– مثل مواد التجميل وغيرها- يتضمن الزيادات المستمرة في أسعار هذه السلع الدوائية، حيث زاد الاستهلاك الدوائي من أقل من 593 مليون جنيه عام 1984 إلى 0ر3 مليارات جنيه عام 1995، ثم إلى 0ر11 مليار جنيه عام 2007، ثم إلى 28 مليار جنيه عام 2014، بمعدل نمو سنوي يزيد على 10%، ثم ما جرى من قفزة هائلة في أسعار الأدوية بعد تغريق الجنيه المصري في نوفمبر عام 2016، وقد زادت نسبة الزيادة على 100% في الكثير من الأنواع، وما يؤكد هذه الحقيقة ما أشار إليه أحد المتخصصين في الحقل الصحي، بأن الاستهلاك الدوائي في مصر ظل ثابتاً طوال عقد التسعينات، ويدور حول 800 مليون أو 900 مليون وحدة دوائية سنوياً، يتضمنها عدد من الأدوية يتراوح بين 2278 عقاراً وثلاثة آلاف عقار، أو نوع دوائي مسجل محلياً، حيث تصنف هذه العقاقــــير إلى ما بين 350 و400 مجموعة كيميائية، وتظهر الدراسات المسحية Survey عن سوق الدواء المصري في منتصف التسعينات أن المجموعات الدوائية المبيعة وفقاً لترتيبها كانت على النحو التالي :

- 22% لأدوية المضادات الحيوية.

- 13% لأدوية المسكنات.

- 10% للفيتامينات والمعادن.

- والباقى لبقية أجزاء الجسم..

وأثبتت تلك الأبحاث أن هناك سوء استخدام للمضادات الحيوية بنسبة تصل إلى 60% إلى 70% في أغلب مناطق مصر.

الرابعة: إضعاف قدرة الهيئات والمراكز البحثية الرقابية في مجال صناعة الدواء وأهمها هيئة البحوث والرقابة الدوائية، بما يسهل إدخال الكثير من الأدوية واللقاحات دون مراجعة جادة على فاعلية المادة الحيوية، وقد دارت في هذا معركة كبرى على صدر صفحات الصحف المصرية في عهد حكومتي د.أحمد نظيف التي عرفت باسم حكومة رجال المال والأعمال (2004- فبراير 2011).

ويلعب الإعلان والتأثير المتعدد الأشكال الذي تمارسه شركات الأدوية على عدد كبير من الأطباء، دوراً كبيراً في أنشطة شركات الدواء، خاصة أن الجزء الأكبر من استهلاك الدواء يقوم به الأفراد والقطاع العائلي عموماً.

ويتشكل القطاع الدوائي في أي مجتمع من عنصرين أساسيين هما :

◘ شركات إنتاج وابتكار الأدوية.

◘ شبكات الصيدليات وشركات التوزيع والتسويق.

وسوف نحاول هنا عرض تطور هذا القطاع الدوائي في مصر باعتباره إحدى ركائز نظم الرعاية الصحية في البلاد.

(ب) الصيدليات وشبكات التوزيع الدوائي

أظهرت المسوح الصحية التي قامت بها أجهزة وزارة الصحة بالتعاون مع بعض المؤسسات الدولية مثل (البنك الدولي– منظمة الصحة العالمية– منظمة اليونيسيف) منذ عام 1988، والدورات المتتالية لهذه المسوح أعوام (1992، 1995، 2000) بالإضافة إلى مسحين محدودي الحجم نسبياً عن المراهقين أعوام (1997، 1998)، حقيقة أن عمليات شراء وتسويق الدواء تتم عبر رافدين أساسيين هما :

الأول: القطاع الحكومي بكل وحداته ويستأثر بنحو 45% من حجم استهلاك الدواء في البلاد، وهو يتوزع بين هيئة التأمين الصحي وفروعها (15%)، ووزارة الصحة ومستشفياتها (6%)، والمؤسسات العلاجية ببعض المحافظات (1%)، ثم المستشفيات الجامعية والحكومية الأخرى (20%)، وأخيرًا وحدات حكومية أخرى (بنسبة 3%).

الثاني: القطاع العائلي والأفراد، ويتولى 55% من استهلاك الدواء في البلاد سنوياً عبر شبكات الصيدليات الهائلة المنتشرة في جميع ربوع مصر.

وهناك ثلاث حقائق إضافية في شرح بعض جوانب هذه الصورة:

الحقيقة الأولى: أن هذه النسب في استهلاك الدواء غير دقيقة، حيث غالباً ما يجرى نقل عبء نسبة الـ20% الخاصة بالمستشفيات الجامعية إلى المرضى أنفسهم (أي القطاع العائلي والأفراد) بما يرفع نسبة مشتريات الأفراد والقطاع العائلي من 55% إلى 70% على الأقل (43).

الثانية: أن 84% من مبيعات الأدوية عام 1995 قد تمت من خلال الصيدليات الخاصة، التي بلغ عددها وقتها نحو 20 ألف صيدلية، زاد بحلول عام 2008 إلى ما يزيد على 0ر45 ألف صيدلية، وبالمقابل فإن الـ16% الأخرى من مبيعات الأدوية قد جرت عن طريق كبار المشترين مثل المستشفيات الحكومية والتأمين الصحي وغيرهما.

الثالثة: أن نسبة مبيعات الأدوية دون تذكرة طبية تتراوح بين 40% و60% من حجم المبيعات في مصر، وهي حقيقة سنبني عليها في تحليلنا اللاحق لطبيعة وحجم الإنفاق العائلي على الرعاية العلاجية.

ربما تفيد معرفة طريقة توزيع الأدوية في البلاد، حيث نجد أن:

▪ 35% من الأدوية تقوم الشركات ذاتها بتوزيعها.

▪ 33% أخرى تتم بمعرفة الشركة المصرية لتجارة الأدويـة (قطاع أعمال عام).

▪ 23% تتم من خلال شركة الشرق الأوسط للكيماويات والشركة المتحدة للصيدلة.

▪ 9% يجري توزيعها بين التعاونيات وموزعين آخرين (46).

وفي المقابل فإن البيانات الواردة في الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2004، يشير إلى أن هذه الصيدليات لا تزيد على 27550 صيدلية موزعة بدورها بين صيدليات عامة وصيدليات تعاونية وغيرها، بينما تشير إحصاءات نقابة الصيادلة إلى وجود أكثر من 45 ألف صيدلة في مصر حتى العام 2008.

إذن، وكما يبدو فإن هذه الصيدليات المسجلة في نقابة الأطباء تشمل الصيدليات العامة والخاصة معاً، بحيث يمكن القول إن نسبة الصيدليات الخاصة تعادل 50% من إجمالي الصيدليات العاملة في مصر ذلك العام.

ويشرف على هذا القطاع الدوائي الضخم– بشقيه التصنيعي والتسويقي– سواء من حيث تسجيل الأدوية أو الرقابة على حيويتها وكفاءتها ثلاثة كيانات تنظيمية وإداريــة في مصر، هي:

▪ مركز التخطيط والسياسات الدوائية.

▪ الإدارة المركزية للصيدلة التابعة لوزارة الصحة.

▪ الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية.

وبينما تنفرد الأخيرة بالرقابة على جودة الدواء، أو ما يســمى "الإتاحة الحيوية" لصنف الدواء، تتولى الإدارة المركزية للصيدلة الرقابة على أداء الصيدليات العامة والخاصة المنتشرة في البلاد، بينما يختص مركز التخطيط والسياسات الدوائية بوضع السياسات العامة الخاصة بهذا القطاع ككل.

وإن كانت هناك تأكيدات من جانب كل المتخصصين الموثوق بهم في مصر، بعدم وجود سياسة دوائية حقيقية في البلاد تسمح بالوصول إلى تعزيز البحث العلمي في هذا المجال العام، وتحقق فرص إنجاز منتجات دوائية مصرية جديدة بعيداً عن النمط السائد والغالب حالياً على الصناعة الدوائية المصرية والعربية القائمة عــلى ما يسـمى "التشكيل الدوائي"، المقابل مصطلحياً لمفهوم صناعة التركيب أو "التقفيل" في قطاعات الصناعة الأخرى.

وبرغم ما تمثله صناعة الدواء في أي بلد من البلدان، من ركيزة أساسية في بناء القدرات الشاملة للدولة، فإن غياب هذه الاستراتيجية الوطنية للصناعات الدوائية وسيطرة القطاع الخاص المدفوع بحوافز الربح، وكذلك الشركات الأجنبية، تجعل من المؤكد وجود ثغرة هائلة في جدار الأمن القومي المصري، وقد زاد الأمر سوءاً تكرار الأزمات في المواد الدوائية والغذائية الحيوية (ألبان الأطفال)، أو الأدوية الحيوية للأمراض المستعصية والمزمنة، بما يجعل البلد رهينة لمن يسيطر على السوق المصرية في الدواء، بينما تسجل الإحصاءات المصرية وجود أكثر من 80 مليون متردد من المرضى على المستشفيات العامة والوحدات الصحية الحكومية سنوياً، مقابل وجود نحو 8 ملايين مريض متردد على المستشفيات الخاصة من القادرين على تكاليفها، بما يجعل من المستحيل استمرار الوضع الراهن بكل مخاطره واحتمالاته الضارة .

إعلان