إعلان

مشاهدات على هامش " الجنادرية"

مشاهدات على هامش " الجنادرية"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 16 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذهبت إلى المملكة العربية السعودية مرات ثلاث، مرتين معتمرا، وثالثة مشرفًا على شئون تعليمية وجامعية مصرية، وجاءت دعوة مهرجان التراث والثقافة "الجنادرية" هذا العام لأذهب وأشارك بورقة بحثية في ندوة بعنوان " الإعلام السياسي العربي: صياغة المواقف وقيادة التحولات" ولتكن أول زياراتي إلى مدينة الرياض وأول مشاركاتي أيضا في فعاليات هذا المهرجان السنوي.

ما الجديد ؟ يمكن القول أولا أن المرات السابقة لم تمنحني فرصة التوقف ومعرفة أكثر دقة وتبصرا بثقافة وعادات المجتمع السعودي، أقصد التفاعل التلقائي مع شرائح متنوعة من المواطنين، كما لم تمثل جميعها إضافة أو تنقيحا لبعض ما أحمله من أفكار بشأن عناصر الثقافة وأفق السياسة والمجتمع في الحياة هناك.

إذ كان التواجد يتم مع مصريين يعملون ويقيمون، ففي العمرة تذهب مع أسرتك ضمن فوج تنظمه إحدى شركات السياحة وتمضي الفترة كلها مع أسرتك ومع الزملاء المصريين المرافقين لك، فتؤدى المناسك وتعود، وهو ما تكرر بشكل ما في زيارة العمل أيضا، فجاء التفاعل هامشيا وعابرا مع المجتمع السعودي.

هذه المرة كان المشهد الأول الذي دققته الذاكرة يخص طبيعة موظفي الاستقبال في الفندق الذي أقيم فيه إذ كلهم بزيهم من المواطنين، كان هذا ملمحا أولا عنى لي معنى الإقبال على العمل في وظائف متنوعة ومختلفة، واستمر ذلك يتأكد عبر أيام الإقامة في مختلف الفاعليات التي تتطلب تواصلا أو تيسيرا لوجيستيا يظهر فيه أفراد سعوديون يقومون بمختلف المهام والأدوار في الاستقبال، وفي تيسيرات السفر وفى مختلف أعمال المؤتمر، بل وفى السيارات التي تستقبل وتودع، لا يتضمن ذلك أنفة أو تعاليا أنتظر أن أرقبه كباحث، بل هناك نشاط ومشاركة في الأعمال المختلفة دون تحجج أو نفور، هو توجه نحو عصرنة الحياة ربما أو بوادر لذلك وتقبل لفكرة العمل أيا كان نوعه كنشاط إنساني مهم ومشرف.

في إحدى جلسات المؤتمر انطلق صوت نسائي لم نعرف جهته ولا مصدره سوى كونه معنا في مكان ما من القاعة الكبيرة، لكننا نلتفت لنبحث عن مصدره فلا نراه، يستمر الصوت فصيحا متسائلا بقوة: لم هذا التفريق ولماذا لا نجلس في صدارة القاعة الرئيسية ونشارك في طرح الأسئلة ؟ ثم ليضيف أن هذا لهو من قبيل حجب دورنا. جاء الرد هادئا من ممثلي اللجنة الثقافية للمهرجان، ومعللا بأنه استجابة لطلبات كثير من الحاضرات. ثم إذ نجد وفى الجلسة التالية مباشرة ما يوازى صفا من المقاعد تشغله النساء ممن أردن وقبلن أن يشاركن حضورا غير محجوب فعاليات الجلسة، ويتكلمن ويطرحن مداخلات ناقدة حيوية دون أن يقتصر ذلك على صوتهن فقط.

ثم كان حضوري لإحدى الفعاليات الثقافية في جلسات النادي الأدبي في الرياض، رغبة منى في مقاربة بعض عناصر المشهد الأدبي السعودي المعاصر، وتم في هذه الجلسة إزالة الفاصل بين الحضور نساء ورجالا ليتشارك الجميع الاستماع إلى الشعراء. ثم تقوم إحدى الحاضرات باتجاه منصة إلقاء الشعر لتلقى قصيدة بالنيابة عن شاعر عربي تعذر وصوله في الموعد، كما تلت إحدى الشاعرات المشاركات قصائدها الرومانسية المتعددة. وانطلق في الجلسة صوت شعري أحسبه مفاجئا لي في مفرداته اللغوية وتراكيبها وصوره غير التقليدية، وإضافة إلى قصائد متعددة الأغراض احتل الشعر الرومانسي وقصائد الغزل مساحة لا تخطئ، أقول في نفسي ربما هذا الأمر – الذي تأكد في قراءة بعض أعمال ودواوين نشرها النادي الأدبي - يمنح دلالة عن خيال قواه دوما تباعد فيزيقي، هو الذي غذى المخيلة الأدبية لدى الشعراء والشاعرات، ولأسأل هل يستمر هذا النوع من أغراض الشعر بمفرداته مهيمنا هكذا وبعد أن تشارك أفراد المجتمع رجالا ونساء في المنتديات العامة حضورًا؟

ثم كان الأوبريت الذي عرضته الجنادرية في حفل الافتتاح الرسمي، وفى حضور الملك وضيوفه معبرا أيضا، فبينما يستعرض الأوبريت تاريخ وسيرة المملكة عبر محتوى شعري غنائي شارك فيه مطربون سعوديون مشهورون في مقدمتهم محمد عبده، كانت كل فصول الأوبريت خالية من حضور النساء تمثيلا ووجودا، لأقول وكأن التاريخ هنا رجل، ثم ليهل المشهد الختامي الذي يعبر عن مساحة الآن أو الحاضر لتظهر عشرات الطفلات في ملابس زاهية بهيجة يغنين ويملأن ساحة المسرح تعبيرا مهما عن فكرة حضور المرأة أو أن المستقبل - وكما أراد التعبير عنه مخرج الأوبريت- سيمضى على هذا النحو. انتهى الأوبريت بهذا المشهد الدال.

لم يغب أيضا النقاش السياسي المنفتح على الأحوال والسياسات الداخلية في جلسات ومداخلات وأسئلة المهرجان في الجلسات المتعددة التي حضرها عدد كبير من الوزراء، عبرت عن تغيرات في مجال وحدود انفتاح النقاش والطرح، شارك فيها مثقفون عرب وسعوديون بحيوية وتدفق.

ربما بقى لدي ملمح ينطلق من مشهد الجنادرية ليمتد بعيدا في سياق إنساني كوني، أكد لي أن العالم كله يمضى نحو انفتاح ورؤى متعددة مهما اختلفت السبل والمرجعيات وتباطأت خطى السير، فهو طريق الحياة صعودا، وهو الذي اصطلحت عليه البشرية كطرق وآليات للحياة المستقرة والتواجد في الكون إضافة ومنجزا، ومهما ازدادت المبررات وتعددت التبريرات، هكذا خلق الله الحياة ليبقى فيها ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

إعلان