إعلان

ألعاب سردية في حضرة الموت

ألعاب سردية في حضرة الموت

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 14 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم تكتف الكاتبة نهلة كرم بذكر الموت، من حيث طقوسه وأحواله وآثاره وهواجسه وفواجعه وروادعه، بالقصة التي حملت عنوان مجموعتها "الموت يريد أن أقبل اعتذاره" (دار العين بالقاهرة)، بل إن الموت، بغموضه وشجونه وتساؤلاته المفتوحة، حضر بطلا في كل القصص تقريبا، سواء أتت الكاتبة على تناوله مباشرة، وتعاملت مع ما يفرضه من تفكير وتعبير وتدبير، أو ناوشته من بعيد وفي حذر، واقفة على أطراف ما يقتضه التعامل معه من شعور دفين بالخوف والغربة والحيرة، وساخرة منه أو مستقوية عليه، عبر "فانتازيا" لا تكاد تخلو منها أي قصة، وبأسلوب ناعم يكاد ينزع عن الموت كثيرا من رهبته وهيبته والصد عنه الذي يلازم كل البشر إلا اليائسين المقدمين على الانتحار.

ويتحول الموت في هذه المجموعة إلى كائن حي أو شخص بوسعنا أن نحاوره ونداوره ونعاتبه ونلومه وقد نوبخه على أنه قد خطف منا أعزاء علينا، وهو ما تجلى بالأساس في القصة التي منحت المجموعة عنوانها، بل تزيد الكاتبة على هذا حين تسحب الموت ليصير مهتما بما تفعل، ويكون بوسعها أن تطلق معه طاقة للتأمل والتخيل، فها هو يقول لها: "انا أكتب القصص أيضا، لكن للأسف، لا يمكنني تدوينها مثلما تفعلون، لذلك أحب مراقبتكم وأنتم تكتبون، هذا من أعظم الأشياء التي تنعمون بها، كما أسعد كثيرا حين يراني أي منكم ويستمع إليَّ، ويكتب ما أقوله فيتحقق حلمي في الكتابة".

لكن كل هذا لا يجعل الموت يفقد قدرته على فرض جو مفعم بالأحزان والكآبة، بما جعل الليل يسأل: "هل الموت أكثر سوادا مني"، لتنطلق الكاتبة من هذه النقطة وتمضي على خطى الحكمة السابغة التي تقول: "تتعدد الأسباب والموت واحد"، فقد يكون الموت راجعا إلى صراع سياسي وعمليات إرهابية مثلما تنبئنا ثلاث قصص هنا هي: "الموت في الخارج فقط" و" شروخ في حائط المنزل" و"عدة سنتيمترات فحسب"، وقد يكون عائدا لأسباب داخلية أو ذاتية مرتبطة بالمرض والعجز وفقدان الرغبة في مواصلة الحياة، مثلما تشي كثير من القصص، لاسيما تلك التي تتعلق بموت "الأب"، والذي كانت بطلة قصة "شجر الليمون" تتمنى لو كان بوسعها أن تجعل منه ليمونة تزرعها وتسقيها بنفسها بعد أن قرأت خبرا عن امرأة سويدية تنتظر مواقفة الدولة على أن تصير شجرة توت ويصير زوجها شجرة سرو بعد موتهما، لتظل غارفة في بحر من الأسئلة والحيرة بعد وفاة الأب مثلما تبين قصة "سماء لا تجيب أحدا"، حيث تسأل أمها، متطلعة إلى لباسها الأسود: "لماذا يموت الناس؟ هل أبي يرانا من أعلى؟ ماذا بعد الموت؟"، وتنتهي القصة عند هذا الحد، لتأتي الإجابة في قصة أخرى على لسان الراوي، الذي يقول عن الموتى: "حين نزورهم لا تأتي الشمس معنا، يعيشون أسفل الأرض في ليل دائم بلا نجوم أو قمر يزين وحشته"، وفي هذا بالقطع تعبير عن معنى حسي للموت، يرتبط أساسا بموت الجسد وتحلله، ولا يمتد إلى ذلك المتعلق بخلود الروح، أو بمعنى أدق يعبر عن صورة الموت في أذهاننا حين نزور المقبر، ونتخيل أن الراقدين تحت الثرى لا زالوا محتفظين بأجسادهم التي نعرفها، وأنهم يتخبطون في ظلام دامس.

ولا يلاحق الموت في هذه المجموعة البشر فحسب إنما كل شيء، فيموت العصفور الجميل بعد أن لسعته نار حامية في قصة "عصفور الفراق"، ويموت الكلام في قصة "مملكة البُكم"، ويموت الحب الوليد بين فتاة وجارها الشاب في قصة "الشرفة الأخرى" وتموت الأواني مثلما تبين قصة "مج مبتور اليد"، حيث تمنح الكاتبة تلك الآنية الصغيرة التي نحتسى فيها المشروبات الساخنة روحا حتى تكون قابلة لمعانقة الموت فيما بعد، وتموت الملابس بعد أن نتخلى عن استعمالها مثلما أظهرت قصة "خيوط أخرى"، ويستعد الكل للموت في قصة "قبل نهاية العالم" حيث تجلس أسرة منتظرة قيام القيامة بعد أن أُعلن عن هذا في التلفاز، وهنا تمارس الكاتبة تمرينا بسيطا في الإجابة على سؤال وجودي يقول: ماذا لو عرف الإنسان موعد موته؟ لتجيب، عبر سرد قادر على وصف المشاعر والتصرفات التي ينطوي عليها التعامل الجاد مع هذا السؤال، بما يجعلنا ندرك أن الكل حينئذ سيتحولون إلى النقيض تماما، فيوزع الملك ثروته على الفقراء، لكن هؤلاء يرفضون ماله لأن الجنة تنتظرهم ولا يريدون له أن يثاب على فعلته بعد ظلمه الطويل، وتسحب دولة جيشها من أرض دولة أخرى مفضلة السلام، وحين يعلن عن أن الخبر كاذب يعود كل فرد وكل طرف إلى سيرته الأولى، واقعين تحت غواية الحياة وسطوتها.

لا يعني هذا أن القصص تحمل استلابا تاما، أو استسلاما كاملا للموت، إنما هناك دعوة خفية لمقاومته، أو بمعنى أدق، دعوة للتشبث بالحياة في وجه الرحيل الأبدي. ففي قصة "مملكة البكم" يتحول الصمت إلى كلام هادر مقاوم بعد أن يستعير ابن الملك، معطوب اللسان، ألسنة غيره من أطفال المملكة. وفي "مج مبتور اليد" يتشبت الإناء الصغير بالحياة رافضا أن يزاح إلى سلة المهملات. وفي قصة "خيوط أخرى" يعاد تشكيل البلوفر في لباس جديد. كما أن التشبث بالحياة هو الذي يدفع قطع الملابس في قصة "دولاب معتم" إلى التشاجر في سبيل الخروج من ظلام الدولاب إلى براح الشارع حين تختار الفتاة بينها ما ترتديه قبل أن تغادر البيت. وتزيد على هذا بطلة قصة "نجوم في سقف الحجرة" حين تريد أن تجعل الحياة أكثر رحابة، وإلى حد بلوغ النجوم العالية، حيث ترى البطلة نفسها في شرودها الطويل أنها صاعدة إلى النجوم بحبال طويلة، لا لتهرب من واقعها الأليم فحسب، بل لتحلق في آفاق لا نهاية لها من المتعة والتحقق والتخيل، الذي تبدو الكاتبة مولعة به وهي تجعل كل من حولنا من حيوانات وجمادات ورموز ومعاني قادرا على أن يتحرك ويتكلم ويتذوق ويتألم في عجائبية لم تخل منها مجموعتها القصصية الأولى "أن تكون معلقا في الهواء" وروايتها "على فراش فرويد".

إعلان