إعلان

برديات الغرباء .."قصة قصيرة"

برديات الغرباء .."قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 09 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يتوزعون على الطرق الرئيسية، صار غالبا لا يراهم سوى هناك، في ذات الشوارع التي تزدحم نهارا، صامتين وساكنين يتناثرون فرادى على الرصيف الممتد بين حارتي المرور على طول اتجاهي السير، في مسافات تتوسط مجموعات المتسولين وبائعي المناديل الذين اعتاد على أماكنهم وعرف وجوههم كلما مر وهم يتحينون فترات بطء حركة العربات أو غلق الإشارة فيتجولون ليعرضوا ما لديهم وهو لا يزيد على مناديل وحزم نعناع ذابلة من طول مدة استخدامها وعرضها كأشياء ظاهرية للبيع.

أما الآخرون فهم دوما فرادي لا يطلبون شيئا، ولا مرة وجدهم يتسولون أو يمدون أيديهم نحو العربات، أسمالهم بالية عليهم، أغطية التراب المتجلد التي ترجع لتراكمات طالت تمنحهم تميزا واضحا يسهل عليه أن يعرفهم من بعيد.

هنا يظهر الرجل الذي يكتب جملا باللغتين العربية والإنجليزية على كرتونة صغيرة، في موقعه تماما عند أول المنحني الهابط إلى الشارع، خلفه متحف الزراعة صيفا ويتحرك إلى أعلى الكوبري ليكون في منتصفه، ثم في اتجاه الجزء الأيمن المطل على نادي الجزيرة شتاء، جميعهم يتحركون عكس اتجاه الريح وخلف تيارات الهواء العاصفة والمتربة أحيانا، كأنهم يعلنون اختلافا كليا يمتد إلى التعامل مع الطقس، يفكر أنهم ربما يكون لديهم إحساس عكسي بدرجات الحرارة وقد صار الآن من طبيعتهم، لا يسعي لفهم أكثر.

هذا المتوسط القامة والأكبر سنا، والثاني على ذات الامتداد في اتجاه الطريق نحو وسط المدينة، يتحرك ذهابا وإيابا في مسافة عشرات الأمتار لا تنتقل به أبدا خارج مساحة الكوبري المستقيمة، هو ليس مؤديا صامتا كسابقه، يهرول أحيانا، ويخاطب دائما شخصا ما وفي كل الأحوال بغضب وبتلويح جم بيديه، أيضا لا يطلب شيئا بل إن سلوكه سيكون طاردا لمن يفكر في أن يمنحه أي شيء، أحيانا يتخير سيارة ما ويتوجه نحو سائقها بغضبه الشفاهي المنفعل، ثم لا يزيد على ذلك، وربما يضيف حركة قبيحة بأصبعه، يستيقظ الوعي حادا لديه إذا في تلك الحركة البذيئة، كأنه يذكر نفسه بالمعني حتى لا يذهب مع أشياء غابت عنه، يصنع حالة درامية متعددة السلوك، فهو يمكنه أن يجلس متمددا على الرصيف حينما تكون بيديه سيجارة وهو ينفث دخانها مستغرقا، يشبه من يصك قانونا رياضيا معقدا بهدوء فريد، لا أراه أبدا يأكل شيئا، لكن يحدث أن يبول في اتجاه أهداف غضبه، لا يضايقه أحد ولا يحول بينه وبين ما يفعل شيئًا.

وكبندول يهز هذا الرجل السمين رأسه بقوة تبدو محيرة ثم يهدأ تماما كأنه يأخذ نفسا وليواصل مرة أخرى، ويقوم رافعا رأسه ثم يميلها عامدا ويعود ليتحرك برأسه بسرعة في الاتجاهين كأنه يتابع هدفًا واحدا يتحرك أمام عينيه ذاهبا وعائدا، ثم يجلس ووجهه نحو الطريق، يتخير بقعة مخضرة يجلس هادئا عليها على ذات الرصيف الممتد كيلو مترات، بقربه يجلس أيضا أحد عمال التشجير، لا يحادثه وفقط كأنه يسبغ عطفا ما وبعض الونس.

كان المنديل الورقي في يدها والحقيبة السوداء المعلقة على كتفها، ثم الملابس الداكنة البسيطة في غير تهدل تؤكد أنها إحدى الموظفات اللاتي خرجن توا من مصلحة أو هيئة ما وتغادر مسرعة نحو بيتها، نظارتها الطبية تضفي تأكيدا على ذات الدور، هي تشير عدة مرات إلي السيارات القادمة، يظن أنها تجازف بتحركها غير المحسوب لتوضح نفسها لباص قادم فربما يتفهم السائق فيهدئ من حركته لينتظرها على جانب الطريق، لكنها لا تزال واقفة في مساحة الرصيف الأضيق ذاتها، وتشير نحو العربات القادمة، تشير وهي تتحدث ببطء ووهن معا، ممسكة بذراع حقيبتها السوداء على كتفها، وتواصل ما تفعله في استغراق كبير، يمر عليها الذين يعبرون في الاتجاهين دون أن ينظروا نحوها، ربما يألفونها هكذا يفكر، يقترب منها فيراها تتوثق من مكان حقيبتها على أعلى كتفها وتتمتم شيئا ود لو سمعه عبر شباك العربة المفتوح، ينظر نحوها مليا لكنها لا تراه، عيونها تتحرك بسرعة ولا تثبت، فجأة تنظر للأمام ثم ترفع يدها ملوحة في اتجاه العربات القادمة.

إعلان