إعلان

أصداء السيرة الذاتية

أصداء السيرة الذاتية

د. أحمد عبدالعال عمر
09:02 م الأحد 11 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

العمر مضى بحلوه ومره، بنجاحاته وإخفاقاته، ولم يبقَ منه إلا الظلال والصدى؛ صدى وجوه وحكايات العابرين والمقيمين من البشر، صدى الأحلام والأفراح والأحزان وكل ما كان، صدى يُجسد خلاصة الرحلة ومعنى الحكمة والدرس والعبرة.

ولأن الصدى هو رجع صوت بعيد يُسمع ولا يقرأ، فقد التقط الأديب الراحل نجيب محفوظ هذه الأصداء بأذنه المرهقة وروحه المرهفة، وهو في شيخوخته المتخمة بالتجارب والخبرات، ودوّنها لنا في كتاب صغير الحجم، عظيم القيمة، هو كتاب "أصداء السيرة الذاتية"، الذي جاءت لغته كأنها إلهامات من عالم آخر؛ فهي شديدة التكثيف، وبسيطة وعميقة، ومتخمة بالحكمة والمعاني والدلالات والصور.

من أبرز الأصداء التي تُطالعنا في بداية الكتاب صدى اكتشاف الموت في الطفولة والصبا، وما يسببه من صدمة معرفية ووجودية، نتعلم بعدها أن الحياة يجب أن تستمر، وعلينا أن نتوقف عن التفكير في الموت لنعيش حياتنا باستمتاع قبل أن تأتي لحظة موتنا.

يقول نجيب محفوظ: "كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتي، كان الموت مازال جديدًا لا عهد لي به إلا عابرًا في الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتمًا لا مفر منه. أما عن شعوري الحقيقي، فقد كان يراه بعيدًا بعد الأرض عن السماء. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي، فأدركت أنه تسلل على الرغم منا إلى تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات. ورأيتني صغيرًا كما رأيته عملاقًا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات، فكل شخص تذكره، وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة، فلُذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء، وإذا بالباب يُفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبقَ وحدك. واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون، وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف".

وفي محاولة لنقد حماقة البشر وخلافاتهم ومعاركهم الصفرية التي تُفسد الحياة والعلاقات الإنسانية، كتب نجيب محفوظ يصف كيف انتهت معارك المنافسة والسيطرة بين الزوجة وحماتها إلى سلام تام بعد رحيل زوج الأولى وابن ثانية، فقال: "تتربعان فوق كنبة واحدة، تسمران في مودة وصفاء، الأرملة في السبعين، وحماتها في الخامسة والثمانين. نسيتا عهدًا طويلًا شُحن بالغيرة والحقد والكراهية. والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجته، ولا استطاع أن يتنحى. وذهب الرجل، فاشتركت المرأتان، لأول مرة، في شيء واحد، وهو الحزن العميق عليه. وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة؛ الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر، والأرملة تسأل الله أن يُطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة".

ثم يعطينا نجيب محفوظ درسًا يمثل خلاصة تاريخه الشخصي، يعلمنا من خلاله أن البشر مكتوب عليهم التمسك بالأمل، والسعي للبحث عن الحب الذي يُعطي للحياة معنًى، رغم كل ما نقابله في حياتنا من أوجاع البعاد والفقد؛ فيقول: "أحببت أول ما أحببت وأنا طفل، ولهوت بزمني حتى لاح الموت في الأفق، وفي مطلع الشباب عرفت الحب الخالد الذي يخلفه الحبيب الفاني، وغرقت في خضم الحياة، ورحل الحبيب، واحترقت الذكريات تحت شمس الظهيرة، وأرشدني مرشد في أعماقي إلى الطريق الذهبي المفروش بالمعاناة المُفضي إلى الأهداف المراوغة، فطورًا يلوح السيد الكامل، وطورًا يتراءى الحبيب الراحل، وتبين لي أن بيني وبين الموت عتابًا، ولكنني مقضى عليّ بالأمل".

وما بين الموت والرثاء، والحب والفقد، والذكريات والنسيان، والوجود والعدم، والمعنى والعبث، والطمأنينة والحيرة، تتوالى أصداء السيرة الذاتية الثرية للراحل نجيب محفوظ، لنكتشف أن القاسم المشترك بينها هو حضور "المرأة" بوصفها منبع الحياة والبهجة، وأن الإعراض عن المرأة وحبها سذاجة وحماقة وجودية؛ وهو الرأي الذي يتضح لنا من قول نجيب محفوظ لسان على لسان الشيخ عبد ربه التائه: "اعترضتني في السوق امرأة آية في الجمال، وسألتني:

- هل أعظك أيها الواعظ؟

- فقلت بثقة: أهلا بما تقولين.

- فقالت: لا تُعرض عني فتندم مدى العمر على ضياع النعمة الكبرى".

إعلان