إعلان

أيام مارادونا

أيام مارادونا

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 05 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ستعرف أشياء كثيرة عن العالم وماذا جرى به وقصة صعود الخلائق وأيضا مراوحاتهم وغيابهم من تتبع أيام مارادونا، مارادونا بالطبع اسم شهير في تلك اللعبة التي تضم الكوكب الأرضي وبشره كما لم يجتمعوا من قبل على ثقافة أو فكرة أو رجل أو دين.

ومارادونا ليس جوهر الحكاية وإنما هو مؤشرها وبوصلتها، حين هبط على الكون ذلك الذي لا تحمل هيئة جسده من كتالوج المواصفات المثالية للرياضي ولاعب كرة القدم شيئا كثيرا، فليس هو بالفارع الرشيق، وحيث يبدو في رداء تلك الأيام من منتصف ثمانينيات القرن الماضي أقرب إلى تكوين لاعب مصارعة حرة.

هو ذاته مارادونا الجالس الآن في المدرجات صارخًا يكاد يقفز من سورها متألمًا أو متحسرًا على ما لم يحققه منتخب الأرجنتين من انتصارات يتمناها في تلك الكؤوس الكروية القارية والكونية، أو مرتديًا الشورت ومدخنًا للسيجار الكوبي أو في تلك الصور القديمة مرافقا لكاسترو الذي ملأ ساحة بعض الزمان صوتًا وحضورًا ذات يوم صار من الأيام الخوالي.
لا يعرف الكثيرون ربما من صبية وشباب هذه الأيام الكثير عن مارادونا وسحره، وإذا تحدثت عنه واجهوك بمهارات ميسي وقالوا لك "بص وشوف ميسي بيعمل إيه؟" فإذا أصررت على أن تستحضر زمنك واجهوك بموجبات الصمت بأن الكرة القديمة كانت بلا خطط دفاع وكان كل ما بها سهلا عاديا حتي لتكاد تعتقد معهم أنه كان يكفي أن يوجه مارادونا أو غيره من مهاجمي الكرة نحو الشباك فتدخل، وحين يتملكهم يقينهم المعتاد في الحديث تعرف أن الزمان اختلف فتؤثر الصمت.
مارادونا عنوان لدورة حياة كان يحضر فيها كأس العالم وكل كأس قاري بمجموع مبارياته لا يتخلف عنها شيء إلى كل بيت به جهاز تليفزيون، وبلا اشتراكات ولا تسجيل مواعيد وحجز في كافيهات ولا مناشدات لسعادة حكماء الفيفا الموقرين عن عدالة الكرة وهى تستدير في الهواء.
لا شيء سوي أن تدير مؤشر التليفزيون على إحدى القناتين وفق توزيع المباريات عليهما، فتسمع أولاً صوت المعلق وهو يقول اتحاد الإذاعات والتليفزيونات العربية فلا تهتم كثيرا بالمعنى الذي ستدرك قيمته بعد زمان منتظرًا بدء التعليق على المباراة.
مارادونا الذي سهرنا لأجله مساء متأخرا نتسلى بما سيفعله في المباراة ساعتين أو يزيد بعد منتصف الليل ارتباطا بفروق البث وتوقيتات إذاعة المباريات على الهواء من البر الآخر من العالم، متحلقين حول شاشة صغيرة لا تتجاوز في أحسن الظروف عشرين بوصة، وهى أكبر شاشة متاحة لدى أي من زملاء الوقت والأوان، في انتظار إطلالة القصير ذي الشعر الكثيف الخشن المتموج، الذي رغم تحايله واستخدام يده خلسة ليدفع كرة في المرمي فيكون هدفا تفوز به الأرجنتين على إنجلترا فنتعجب قليلا لتعليقه التالي قائلا إنها "يد الله" ولكن – كعادة المحبين - لم نتوقف كثيرا.
أيام مارادونا لم تكن المقاهي مخصصة لمشاهدة المباريات ولكن تجمعات المنازل وردهات البيوت وأمام الفناءات، أما المقاهي فقد كان يذهب إليها فرارا كل من لا يطيقون البيوت وشاشة تليفزيونها منشغلة بكرة القدم طوال المساء، رغم أن التعليق كان هادئا راكدًا لا يجيد استخدام الإفيهات المشحونة عبثاً أو يصرخ مستجديًا إعجابًا زائفًا لمشاهدين صاروا أيضا كعادة أهل الشاشة الكروية صاخبين.
في أيام مارادونا كانت المعيشة بسيطة قنوعة والإتاحات محدودة، فلافتات الإعلانات حول الملاعب حتى في أضخم حدث كروي في العالم مزينة بإعلانات شركة باتا للأحذية، نشاهدها ونتعجب ونسأل عن علاقته بمحلات باتا التي كانت منتشرة في كل حي في القاهرة وفي عواصم المحافظات نشتري منها الحذاء الأبيض للعب الكرة في الشارع "باتنين وسبعين قرش ونص"، دييجو أرماندو مارادونا ابن عامل مصنع الطوب كان شارة للزمان على التأثير العظيم للموهبة والتي يمكن أن تغير المصائر وتصنع الفروقات.
مضت الأيام التي كان مارادونا مركزها وتعددت الشاشات وظللنا نتابعه ونتعاطف معه كثيرا وهو يصير ثقيلا مترهلا ويعاني من سمنة مفطرة ومشكلات أخري كثيرة، حتي تدخل كاسترو واستدعاه إلى كوبا التي تمتلك واحدا من أفضل النظم الطبية في العالم رغم طول حصارها ومشكلاتها الاقتصادية حتي عاد يغرد في الملاعب مشجعا.
حين قررت الفيفا منح لقب لاعب القرن العشرين وأجرت استطلاعا على موقعها فاز به مارادونا مكتسحا بيليه بفارق مذهل، فتعالت الأصوات "الحكيمة" بأن كثيرين ممن صوتوا لمارادونا كانوا يعيشون زمنه، وأن تصويتا آخر متخصصا وربما "حكيما" ضروريا وبالطبع فاز به بيليه ليتم إعلانهما سويا فائزين ومنحهما اللقب مناصفة وكعادة كل الترضيات التاريخية، وبالطبع جرى مارادونا على عادة أهل جيله وطابع زمنه رافضًا ليقول: أتركها لكم لا أريدها يكفيني ما منحني إياه المحبون".

إعلان