إعلان

ثقافة عنق الزجاجة..!

ثقافة عنق الزجاجة..!

أمينة خيري
09:01 م الإثنين 29 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ثقافة عنق الزجاجة عتيقة أصيلة قديمة. وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنظم سياسية وأنماط اقتصادية ومجتمعات شرقية. يسمونها على الجانب الآخر من العالم "فن صناعة
الأزمات" أو "حنكة ابتكار الكوارث" أو "إبداع تصنيع المشكلات".

وأذكر أنني وقت كنت طفلة، كانت عناوين الجرائد التي تجبرني والدتي على قراءتها حتى أتقن اللغة العربية تحوي دائمًا عبارة "عنق الزجاجة". فتارة يشير العنوان
إلى أن مصر ستخرج من عنق الزجاجة العام القادم (1976)، وأخرى أن على المصريين الصبر والجلد لحين المرور بسلام من عنق الزجاجة، وثالثة بأن "مصر أوشكت على الخروج من عنق الزجاجة".

ولطالما سيطر "عنق الزجاجة" على تفكيري، ليس فقط لأن العنق تحرك معنا من عصر الرئيس الراحل السادات إلى زمن الرئيس الأسبق مبارك، ولكن لأنني سألت والدتي ذات
مرة قبل أن أكتسب قدرًا من اللؤم أو حتى أتدرب على أساليب اللف والدوران: "طيب ماذا لو نجحنا بالفعل في المرور من عنق الزجاجة، ولكن اندلفنا صوب الزجاجة من الداخل"؟!

وأقسم بالله العظيم إن سؤالي لم يكن حينها يحمل شبهة معارضة سياسية أو مشاغبة اجتماعية أو حتى مداعبة ثقافية.

لكن الصورة الذهنية التي كانت تراودني هي لزجاجة اللبن الشهيرة وآلاف من المصريين بحجم عقلة الإصبع والجميع محشور في العنق، فما هي الضمانة بأن عملية دفعهم بعيدًا عن العنق ستتم من الداخل صوب الخارج وليس من الخارج صوب الداخل؟!

ورغم منطقية السؤال وواقعية التصور، فإن والدتي أنّبتني! وزجرتني! وطالبتني! بعدم المجادلة مجددًا في مسألة "عنق الزجاجة"، وأن الطريق الوحيد للخروج منه هو
من الداخل إلى الخارج.

وكانت الميزة الوحيدة للدرس القاسي واللوم العاتي اللذين تلقيتهما هي أن والدتي قررت أنني أصبحت متمكنة تمامًا من اللغة العربية، وتوقفت عن روتين إقرائي عناوين الجرائد صباح كل يوم، واستبدلت "الإيجيبشان جازيت" بـ"الأهرام" بغية بدء تحسين اللغة الإنجليزية. ويبدو أن الوالدة اعتقدت أن "الإيجيبشان جازيت" لن تتطرق إلى مسألة الأعناق وثقافة الزجاجات، حتى فوجئت بي ذات يوم أُتَهته وأنا أقول bottle neck.

وانتهت قراءات عناوين الجرائد، العربية منها والإنجليزية مع هذا الظهور للعبارة وما تمثله وما فرضته من أسئلة سخيفة، لكن الثقافة استمرت. وعلى غرار قصة "الذئب
الذئب" حيث الصبي راعي الغنم الذي كان ينادي على أهل القرية لينجدوه من هجوم الذئب على الغنم رغم عدم وجود ذئب ولا يحزنون، مرة والثانية والثالثة هبوا لنجدته، ثم فقدوا الثقة به وغنمه وذئبه.

اليوم نحن فعليًا في عنق زجاجة حقيقي. وقد حاولت أن أجد مسميات أخرى لما نحن فيه، وذلك درءًا للتشكيك لمن هم في مثل سني وعاصروا "عنق الزجاجة" المتداول، وكذلك
تفاديًا لكليشيهات تُفقد المفهوم رونقه، وتسلب المعنى غايته.

وبعد بحث وتنقيب، لم أجد سوى "عنق الزجاجة" خير مسمى وأفضل مغزى.

يقف المصريون اليوم فعليًا في عنق الزجاجة تعليميًا وصحيًا ومعيشيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا ودينيًا وأمنيًا.

تكالبت مشكلات وهموم وإخفاقات وإلهاءات وتنويمات وتجاهلات وتخطيطات عقود كثيرة سابقة، وواجهتهم بكل ضراوة وشراسة ودون هوادة.

نظرة سريعة على جهود الدولة المبذولة حاليًا في العديد من الملفات نجد الصحة ومواجهة لفيروس سي وقوائم الانتظار والتأمين الصحي، والتعليم ومصارعة لقرف الدروس
الخصوصية والسناتر وتعديل المناهج وتغيير النظام التعليمي برمته، والطرق وصراع مع الزمن لإنجاز شبكة طرق جبارة وغير مسبوقة، واهتمام بجنوب مصر بعد عقود من الإهمال والتجاهل، وإصلاح قواعد الاقتصاد بعد سنوات من الترميم والتطبيب، ومحاولات تنجح حينًا وتخفق أحيانًا لإنقاذ
الدين مما فعله به "المتدينون الجدد"، وتأجيل لملف الأخلاق المتدنية والسلوكيات المتهلهلة تحت وطأة الاحتياجات المادية الآنية والإصلاحات غير البشرية العاجلة، والقائمة طويلة.

جهود عاتية وقفزات عالية، ربما يتحفظ البعض على مقومات بعضها، وربما يعارض البعض توجهات هنا أو هناك، لكن المحصلة النهائية هي أننا فعليًا وبالحجة والبرهان
محشورون نحن- الـ101 مليون- في عنق زجاجة آملين متمنين مبتهلين إلى السماء؛ علّنا نندلف منها صوب الخارج، وليس في الاتجاه المعاكس.

إعلان