إعلان

من أين جاء أبوبكر شوقي بكل هذه العذوبة؟

من أين جاء أبوبكر شوقي بكل هذه العذوبة؟

محمود الورداني
09:00 م الخميس 18 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

السطور التالية ليست نقدا سينمائيا بأي حال من الأحوال، فأنا أتفهم جيدًا أن للسينما نقادها المتخصصين، لكنني أحاول قراءة هذا الفيلم بالغ العذوبة، والذي هزّني كما لم يحدث من قبل، بل أعتبره أحد أعذب الافلام التي شاهدتها في حياتي.

الفيلم هو يوم الدين الذي أخرجه وكتب له السيناريو والحوار المخرج الشاب أبوبكر شوقي، في أولى تجاربه، بعد فيلمه الوثائقي القصير "المستعمرة"، وكان عن مستعمرة جذام. وواضح أن تجربته الأولى أثّرت فيه بشدة، ما دفعه لعمل فيلمه الروائي الأول عن عالم المجذومين.

من المثير للفرح والسعادة فعلا أن يشارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان هذا العام، ويُرشح للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، كما نال إشادات واسعة من الصحف العالمية بعد منافسته على السعفة الذهبية.. وأكرر مرة أخرى أنه الفيلم الروائي الأول لمخرج شاب.

عذوبة هذا الفيلم ليست فقط بسبب أن بطليه يقفان أمام الكاميرا للمرة الأولى بثبات وبلا خوف، ويتصرفان بطبيعية نادرة، بل أيضا لأن كل ممثليه شاركوا في أفلام ومسلسلات أخرى في أدوار أقل من أن تكون ثانوية. ومع ذلك فالمشاهد أمام فيلم يتمتع بحرفية عالية سواء في التصوير أو المونتاج أو الموسيقى أو الديكور الذي يعتمد على الطبيعة، أي كل ما هو خارج الأستوديو.
الفيلم يحكي حكاية بالغة البساطة عن رحلة يقوم بها بشاي (وهو مجذوم فعلا وإن كان قد تم علاجه، وإن كان المرض قد ترك آثاره على أطرافه ووجهه) بعد وفاة زوجته، باحثا عن جذوره وأهله الذين ألقوا به أمام مستعمرة الجذام وهو لا يزال طفلا. تبدأ الرحلة من بني سويف حيث المستعمرة، وما إن يتحرك بشاي بأغراضه القليلة التي ألقى بها فوق عربة متهالكة يجرها حمار مسكين، حتى يلحق به طفل يتيم نوبي وتلميذ في إحدى المدارس ويطلق عليه الناس اسم أوباما!

يرفض بشاي بشدة صحبة أوباما، بل ويضربه ليذهب وحده، لكن أوباما يرفض تمامًا وفي النهاية يرضخ بشاي، لتبدأ رحلة صاخبة تنتهي في قنا، حيث يعثر بشاي على أهله الذين سبق لهم أن تخلصوا منه في طفولته، لكنه يدرك أن مكانه ليس هنا، بل هناك في المستعمرة فيشد الرحال مرة أخرى بصحبة أوباما عائدًا إلى المستعمرة .
هذه باختصار شديد رحلة بشاي وأوباما، وعبر هذه الرحلة التي تدور كلها في أماكن طبيعية، لا يسعى المخرج لتوصيل رسالة فجة مباشرة حول عالم المجذومين الذين تمارس ضدهم القسوة والإهانة والعزل، بل تصل الرسالة بنعومة وإنسانية فتكون أكثر تأثيرا لأنها غير مباشرة. الفيلم بكامله منسوج بعذوبة وحنان نادرين، فهو يلمس مثلا العلاقة بين الأقباط والمسلمين بالعذوبة والحنان نفسه، ويبتعد بذكاء عن أي رسالة مباشرة.
بشاي قبطي والذين يحملون جثمان زوجته لدفنها ويعّزونه مسلمون، وأوباما الولد النوبي الصغير (12 عامًا) مسلم وبينهما علاقة قربى لا تقل عن علاقة الأب بابنه. وبشاي يصلّي في الجامع دون أي حرج فكلها بيوت الله. وعندما يهرب بشاي من قسم الشرطة وهو مقّيد مع أحد الإرهابيين في كلبش واحد، ويلجآن إلى وكر للإرهابيين لتحطيم الكلبش، يدور كل هذا بحساسية لا تخلو من الكوميديا وبعيدا عن أي نمطية. وبالمثل عندما يضم المتسولون المهمشون بشاي وأوباما إليهم، ويعالجون أوباما الذي كان مشرفا على الموت بسبب الرحلة الفظيعة، بل ويتكفلون بسفرهم إلى حيث يريدون وينفقون عليهم ما يملكونه.. عندما يحدث كل هذا فنحن أمام فيلم مهمته الأساسية تجاوز النمطية والأفكار سابقة التجهيز.
وأخيرا فإن يوم الدين قبل كل هذا وبعده يقدم متعة مذهلة وصورة رائقة، يحس الواحد بعد خروجه منه أنه أكثر إنسانية وأكثر فرحًا بالحياة التي تنتصر على الشر.

إعلان