إعلان

رواية "لعبة الضلال".. شهادة سردية على حال المسيحيين

د. عمار علي حسن

رواية "لعبة الضلال".. شهادة سردية على حال المسيحيين

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 17 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يعزف الكاتب روبير الفارس دوما في رواياته وقصصه على وتر مشدود بين نقطتين: الأولى هي الاحتقان الطائفي المستور منه والظاهر، والساكن والمتحرك إلى حد الانفجار أحيانا. والثانية هي الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية كطبقة عازلة بين الناس والإيمان الحقيقي العميق الفردي المتجرد من المصالح والأهواء، ودور رجالها في استغلال الدين في تحصيل الثروة والمكانة. وبين هاتين النقطتين يتحرك في شد وجذب، وأخذ ورد، وسكينة وصخب، وحذر ومغامرة، لكنه في كل هذه الحالات يبدو مخلصا للفن، مغلبا إياه على أي غضب يمكن أن يجره عليه نصه، وهو ما يحدث له في بعض الأوقات.

يكتب روبير عما يعرفه، فهو يعرف المسيحية، كفرد يؤمن بها، لكنه يعطي العقل مكانته كأي كاتب أو باحث لا يرى قيمة لما يكتبه إن أسلم رأسه لكل التعاليم التي تلقى فوقه دون اختبار وتفكر وتدبر وتمحيص. وهذا الإيمان وتلك المعرفة، وجد فرصة سانحه كي يعمقها من خلال عمله صحفيا يهتم بشؤون الكنيسة ورجالها، ومراقبة شعبها من كثب، ومعرفة دخائلها وأسرارها الدينية والمعيشية، ويهتم في الوقت نفسه بأوضاع المسيحيين في مصر، أحوالهم وطقوسهم وشجونهم وأفراحهم وأتراحهم، وعلاقتهم مع إخوانهم من المسلمين، والتي إن كان التيار العريض منهما يحرص على التعايش والاندماج، فإن المتطرفين، هنا وهناك، أو هناك وهنا، أو في الجانبين، يصيبونها أحيانا بالتباس وارتباك، نراه ماثلا في أحداث طائفية، لا تمر سنة إلا وتضنينا بأفعالها القبيحة الكريهة، التي لم تعالج، حتى الآن، علاجا كافيا شافيا، يقيل عثراتها، ويزيل عقباتها، ويفتح الباب أمام مبادئ المواطنة وقيمها.

تلك هي القضية التي يكرس لها روبير أغلب ما يكتبه من أدب، وهذا حُكم أقدمه هنا من واقع النظر في مجمل أعماله السردية السابقة، حيث روايتيه "البتول" و"جريمة في دير الراهبات" ومجموعتيه القصصيتين "عيب إحنا في كنيسة" و"جلابية ستان"، فضلا عن كتابه عن الموروث الشعبي للأقباط، ومقالاته وتغطياته وتحقيقاته التي نشرها في عدد من الصحف منها "روزاليوسف" و"وطني" و"المقال". وفي كل هذا يبدي روبير استعداده للذهاب إلى أقصى مدى في نظرته إلى مسألة الدين، حتى إننا نجد في روايته الأخيرة شخصية معجبة بالشيطان، لأنه صريح وواضح وجريء ومخلص لدوره، وكأنه في هذا المقام يردد مع أمل دنقل في مطلع قصيدته "كلمات سبارتكوس الأخيرة":

"المجد للشيطان.. معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا".. فلم يمت

وظل روحا أبدية الألم!".

في روايته الأخيرة "لعبة الضلال" الصادرة عن دار روافد لا يريد روبير أن نصل إلى نصها العامر بالصور البليغة، والمواقف اللافتة، دون أن نمر بمفاتيح أربعة، العنوان الصادم، والإهداء اللافت الذي يجعل فيه من أولاده هم الأقانيم، متجاوزا المعنى الدارج أو المتعارف عليه لـ"الأقنوم" في التصور المسيحي، ثم المدخل المعبر الذي يعتبر فيه أن "الزمن هو الإله الأقرب إلى البشر"، ربما منحازا إلى قول مأثور يرى أن "الله هو الدهر"، أو أن الزمن/ الوقت، هو من يغلب الإنسان، فيأخذه من المهد إلى اللحد، بينما هو عاجز تماما أمام تصاريفه وأقداره.

والمفتاح الأخير يتمثل فيما اختار كتابته على الغلاف الخلفي للرواية، ويقول: "مصيرهم بين أقدام رجال الأمن، وضغط شيوخ الجماعات الإسلامية على زناد الفتاوى والمسدسات. إنهم الأقباط الذين تركلهم الحياة بكل قسوة وقذارة في لعبة الضلال التي بدأت بمصر منذ عدة سنوات، وما زالت مستمرة بلا فاصل ولا لحظات قليلة لأخذ الأنفاس أو الخروج من الانتماء الباطني لمملكة روحية فاسدة".

حين تنصت إلى روبير إن التقيته تجد لديه دوما حكايات كثيرة حقيقية شديدة الوقع على النفوس والأذهان عن بعض المسكوت عنه من أقوال مهموسة، وأفعال متوارية، في رحاب الكنيسة، أو بيوت المسيحيين، في القرى والمدن، وهو قادر، كأديب متمرس، على أن ينسج من خيوط كل هذه الحكايات نصا سرديا، يصلح للبرهنة على أن الأدب، وليس التصريحات الموسمية المتقطعة المصاحبة للأزمات، هو ما يمكننا من أن نخلص إلى حقيقة وضع المسيحيين في مصر، وفي القلب منهم الكنيسة برجالها على اختلاف درجاتهم.

في ركاب هذا جاءت روايته لتسرد جزءا من هذا مضفورا في التطور الذي أخذته المسألة الطائفية منذ يوليو 1952 وحتى يناير 2011 ، لاسيما أن الكاتب أتى في نصه على ذكر شخصيات حقيقية، سياسة في مطلعها الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك، ودينية في مقدمتها البابا شنودة والأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي بالكنيسة، وشخصية صحفية مثل أسامة سلامة وقت أن كان رئيسا لتحرير "روزاليوسف"، وبين أيدي هؤلاء، وشخصيات أخرى حقيقية ومختلقة، تتدفق أحداث الرواية، على أجنحة لغة تتكثف أحيانا لترسو على ضفاف الشعر، وهو ما تشي به بداية تقول: "ليس في وسع أحد أن يضم وهج الشمس في صدره، أو أن يغمض بكفيه عيني القمر.. لعبة الاستغماية معك تدخل في دائرة الإحراج حيث الخفي منك معلن في ذكورتي الحارقة، والمعلن مني خفي في أنوثتك المذابة، ولا فائدة".

وتنفرط اللغة أحيانا لتغرق في الوصف البسيط المعبر عن موقف حقيقي شهدته مصر عام 1967، كقوله: "انحشر غريب القفاص وسط الجموع المكدسة بشارع طومان باي تترقب في لهفة وشوق طيف العذراء الأزرق الذي يقولون إنه يظهر فوق قبة كنيسة العذراء بالزيتون، ليعزي مصر في نكستها الثقيلة، يحاول أن يرى شيئا، فلا يمكنه ذلك بسبب الزحام الشديد، لكنه يشتم رائحة بخور قوية نفاذة. دخل الليل عليه فازداد الزحام وكثر الخناق. الكل يريد أن يقترب من مبنى الكنيسة، وفي سبيل ذلك يدوس من يأتي في طريقه بلا رحمة".

ثم تأخذ اللغة طريقها إلى التحليل المستند إلى معلومات مثل قوله: "أمر شنودة الأقباط في مصر بمقاطعة المسلمين اقتصاديا، وظن أن الأقباط الذين استفادوا من إجراءات التمصير، وخروج اليهود والأجانب من مصر في الخمسينيات وتسليمهم لممتلكاتهم في كثير من الأحيان إلى المسيحيين سيهيمنون على الحياة الاقتصادية من المسلمين لشركات الأقباط، والنتيجة واضحة أمام أي شخص عاش في الستينيات والسبعينيات في مصر.

في الستينيات كان هناك كثير من الشركات والصدليات في يد المسيحيين. أما في السبعينيات فقد حدث توازن، ثم امتلك المسلمون معظم الصيدليات والشركات التي كانت في حوزة الأقباط. وضعفت قوة الأقباط الاقتصادية، وتبع ذلك تراجع وضعهم في المجتمع".

تقدم الرواية لنا حكاية عائلة القبطي جمال الغنام، التي يتلاعب بها زمن سياسي عاشته مصر في كبد وكمد، وزمن سردي يتلاعب به الكاتب، حين ينبو عن الالتزام بخط زمني يسير من أدنى إلى أعلى، ومن الخلف إلى الأمام، وحين يسقط عن كثير من الشخصيات قداستها المزعومة، مفتشا عن الجانب البشري فيها، المتواري خلف ادعاءات وأساطير، فهذا قس جاء من صُلب مسلم ينتمي إلى عائلة متعصبة، وهذا قس غارق في الخطأ، وذلك مطمور في الخطيئة، وهنا الشاذ والفاحش المتظاهر بالورع، في مقابل شخصيات جيدة، يذوب الدين في قلبها وتصرفاتها، فلا يتحدثون عنه كثيرا، لكنهم يلتزمون به شديدا.

وفي الرواية أيضا شخصيات مسلمة تعاني مع النقائص ذاتها، وهو ما يتجسد في شخصية محمود ضابط أمن الدولة الذي يتلاعب بالقساوسة والمتطرفين من الجانبين المسلم والمسيحي بلا حساب، والمجند المسلم الذي يظهر من حواره مع زميله المسيحي مدى استسلامه للصور النمطية المغلوطة عن المسيحيين، والمعلومات الخاطئة، والتصورات والأفكار الشائهة السائبة الهائمة في المجال العام.

وترسم لنا الرواية همزات الوصل بين المسلمين والمسيحيين من خلال مواقف وحكايات توزعها على العواطف والمصالح والمخاوف والوضع الطبقي والأزمات والحروب والغياب. فنجد حكايات فرعية متوالدة عن حب بين مسلم ومسيحية، ومسيحي ومسلمة، ونجد اجتماعا على التتيم بسيدة الغناء العربي "أم كلثوم"، ومجالسة خالية من أي أحقاد وضغائن وتصورات خاطئة حول "الحشيش"، ونجد عقلاء يتدخلون في الوقت المناسب ليمنعوا استفحال الفتن، كما يختلط الدم بالدم في الحروب، ما يجسده مسيحي يحمل زميله المسلم المصاب في الحرب، فتصيبه قذيفة ليموت، فيجثو المسلم على جثته ويبكيه بحرقة ووجع.

ويبدو أن الكاتب قد وضع في الخلفية وهو يفكر في كتابة هذه الرواية أن تكون شهادة سردية على حال الأقباط في ستين عاما، ومن ثم تتوالى التواريخ والأحداث الحقيقية، التي يعيها هو جيدا نظرا لأن الملف المسيحي في مصر هو من اختصاصه الصحفي، فأراد أيضا أن يكون من اختصاصه الأدبي، أكثر من أي كاتب آخر.

إعلان