إعلان

دار الثقافة الجديدة.. نصف قرن من العطاء المتواصل

دار الثقافة الجديدة.. نصف قرن من العطاء المتواصل

محمود الورداني
09:00 م الخميس 11 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

صمدت دار الثقافة الجديدة، وواجهت عواصف وأعاصير من الملاحقة البوليسية، ومحاولات لم تتوقف من أجل منعها من مواصلة اختيارها الصعب، والسباحة ضد التيار بإنتاج كتب تنتصر للعقل والاستنارة والديمقراطية والعدل منذ تأسيسها قبل خمسين عاما.

لا أظن أن هناك كاتبا، أو حتى قارئ ، ممن كانوا يتلمسون طريقهم منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لا يدينون لهذه الدار المحترمة بإسهامها الأصيل في تكوينهم الفكري. لا تخفي الدار هويتها اليسارية، بل تفخر بها، وتعلنها واضحة في مئات الكتب التي أصدرتها، وكذلك الكتب التي وزعتها سواء لدار التقدم السوفيتية أو الدور اللبنانية اليسارية.

وحين أسسها الراحل الكبير الأستاذ محمد يوسف الجندي عام 1958، كان الشيوعيون في تحالف معلن مع جمال عبدالناصر ونظامه الذي كان قد بدأ بالفعل في الإعلان عن هويته كنظام معاد للاستعمار وضد الأحلاف الموالية لأمريكا وأحد مؤسسي قوة عدم الانحياز الشابة بعد مؤتمر باندونج. وبعد شهور قليلة، وبالتحديد بعد انقلاب عبدالكريم قاسم في العراق والوحدة السريعة المتعجلة مع سوريا، بدأ نظام عبد الناصر في الانقلاب على حلفائه، أو من اعتبروا أنفسهم حلفاءه من اليساريين، بل أعلن ناصر أن المعركة ضد الاستعمار قد انتهت، وبدأت المعركة ضد الشيوعيين، وقامت أجهزته في مطلع عام 1959 بهجمة بالغة الشراسة للقبض على كل اليساريين، وألقت بهم في معتقلات أبو زعبل والعزب بالفيوم والمحاريق بالواحات وغيرها على مدى خمس سنوات من التعذيب ومحاولات التصفية الجسدية.
وقبل هذا وذاك كانت تلك الأجهزة قد قامت بإغلاق كل المنابر ودور النشر والجمعيات والتجمعات الثقافية. أي أن دار الثقافة الجديدة لم يكن قد أتيح لها العمل إلا شهورا قليلة خلال عام 1958، لكن الروح عادت لها بعد الإفراج عن المعتقلين عام 1964، وعادت لنشر دواوين الشعر والمجموعات القصصية والروايات والأعمال الفكرية والتاريخية لكتّاب ينتمون لتيارات واتجاهات ديمقراطية مختلفة، وليس لليساريين وحدهم. نشرت الدار لفؤاد حداد ونجيب سرور وصلاح حافظ وصنع الله إبراهيم ويوسف الجندي وكمال عبد الحليم ورفعت السعيد وغيرهم من القامات الكبرى.
لم تتوقف دار الثقافة الجديدة بعد ذلك، وظلت خلال حكم السادات ثم مبارك تتعرض لضربات متلاحقة، وتقوم أجهزة الداخلية بغارات متواصلة على مقرها للتفتيش والمصادرة، وكان الأستاذ يوسف الجندي مديرها يدخل السجن ليعود إليه، وأثناء وجوده في السجن كان يتولى الإدارة بدلا منه مؤقتا أحد رفاقه ممن نجوا من حملة القبض، وما إن يفرج عنه حتى يعود للعمل مرة أخرى.
ربما كان حجم الكتب الإبداعية التي نشرتها الدار قليلا، لكن صنع الله ابراهيم أسس عام 1974 واحدة من أهم سلاسل الإبداع التي استمرت فترة ليست قصيرة، ونشرت روايات ومسرحيات لغالب هلسا وكمال القلش ونجيب سرور ومحمود دياب وغيرهم، إلى جانب عدد آخر من الروايات المترجمة. وخارج السلسلة صدر العديد من النصوص الإبداعية.
وإذا كانت الدار قد أخطأت بنشر بعض الكتب الدعائية السوفيتية المترجمة، فإن أياديها البيض على الثقافة المصرية والعربية لا حصر لها، فهي الدار التي لم تسعَ للربح مطلقا، ولم تتكسب من صناعة النشر، ولذلك فهي لم تغيّر مكانها أو تتوسع أو حتى تتطور، وبقيت مخلصة لفكرة أساسية: إنها دار نشر يسارية ديمقراطية تنتصر للحرية والعدل، ولا تنشر كتبا إلا تحت هذا العنوان العريض.
وفي النهاية أود أن أشير إلى أن الراحل الكبير محمد يوسف الجندي مؤسس الدار والمناضل اليساري العظيم سبق له أن شرّفني بكتابة مقدمة لكتابي "حدتو.. سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية مصرية" والذي صدر في سلسلة كتاب الهلال عن دار الهلال عام 2007 وأثنى على الكتاب وعلى المجهود الذي بذلته. والأهم أنه كان في طريقه للمستشفى للعلاج، لكنه آثر أن يمر على الدار ليلتقي بي، ويعطيني المقدمة حسب موعد سابق. وبالفعل أعطاني المقدمة، وركب سيارة إلى مستشفاه، حيث رحل بعد وقت قصير.
شكرا لصمود الدار وللقائمين عليها وللكاتب الكبير صنع الله إبراهيم الذي تحمل مسؤوليتها متطوعا.

إعلان