إعلان

رواية الماضي

رواية الماضي

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 26 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ينظر نحو الشارع البعيد الذي تظلله أشجار تبدو من مكانه متقاربة كظل ضخم، انتبه ليد تضع كوب الشاي أمامه وتختفي كما جاءت مسرعة، خرجت كلمة "شكرا" ممتنة وسريعة ثم تلاشت لتمضى مع حركة اليد التي انسحبت في هدوء، كوب الشاي الزجاجي أمامه، ترسم أبخرته المتصاعدة نقاطا مائية متكثفة من البخارـ تشكل رسما غير قابل للتشكل الكامل على حواف الكوب الداخلية، كانت أيضا تبعث الدفء وتقص في صمت شيئا عرفه من البهجة.

كم مضى من الوقت في جلسته تلك ؟ لم ينشغل بالإجابة، والتي عبرت فقط كأنها تزاحم أو تقطع هدوءا جمًا، يثبت من جديد واجهات البيوت التي عرفها قديما وقد استطالت عالية متزاحمة، لتظهر من بين تجاوراتها مستطيلات رفيعة من فضاء قديم اعتاده أكثر اتساعا.

حين يمد نظره نحو أقصى الشارع تظهر تلك الذكريات التي اختبأت، وفورا تتزاحم وتتراص كمشاهد متجاورة تأخذ منحنى الزمان في رسم صاعد، يحاول بقوة أن يقتلع مبكرا من رأسه فروع استطالة اللحظة، لحظة الاستدعاءات التي يعلم أنها ستمتد وستشكل ظلا موازيا لا يتأثر بمضي الوقت ولا بتحولات النهار والليل، يذكر نفسه أنه لن يمنح أبدا مجالا لسطوتها الأسطورية أن تتملكه، تلك الأيام الجميلة التي مضت!، يعرف مرواغتها بل أكذوبتها، يقول متحديا: بل والجميع يعرف ذلك، لا شيء في الماضي غير أنه مضى بكل شيء وأي شيء.

يؤكد لنفسه ويقنعها أن استقبال الحياة والمضي معها إنما يكون بمراودة دهشتها القادمة واستحضار تلك الدهشة حتى ولو استعصت كثيرا، تلك هي محاولات الحياة والسعي للبقاء على جدار الزمن بلا كثير ندوب.

في جلسة الأصدقاء، وعندما يبدأ أحدهم بتدشين بوابة الذكريات، يبتسم وتجول الفكرة طليقة في عقله: إن من يستدعى كل ما مضى هكذا وكتلة واحدة ربما يتعمد أن يصنع ماضيا آخرا خياليا ليمتلك الشجاعة ليحن إليه، فرارا أو غربة أو تعبا، لا بأس لو كان يستريح أو يطمئن نفسه بما يألفه، لكنه هو ذاته أبدا لم تراوده في أي لحظة أن يرجع إلى ما خلفه من أيام، كل تلك الساعات والصور، نعم تحتشد بكل شيء وبعض الكثير من أشياء جميلة عرفها، ولكنها أيضا ويقينا مرت.

يؤكد في ثبات أقرب بمحاولة التشبث أنه صارت لا تتجسد لحظة ماضية قادرة على شده إلى بؤرتها وغسله في ماء حنينها، عندما يطمئن إلى ما يفكر فيه، يضيف: لا بأس فلنتذكر ونحكى، تلك هي الأشياء التي تخصنا لكن لا مزيد من الحزن المصاحب، نعم لا مزيد، يقولها في خفوت وكأنه يحادث ذاته قبل أن يقول لهم.

يقطع تلك البدايات المستدعية من أحدهم بنداء يطلقه بصوت عال: يا أصدقاء هيا نبدأ جولة "الطاولة"، رويدا وعبر السنوات صار ذلك لا يجدي لدى كثير منهم ولا يقطع أبدا إصرار أحدهم على استدعاء ونس الذكريات المتقطع والمتكرر صدى في شكل مجلسهم وهيئاتهم ووجوههم، هي علامات ذكرى هكذا صارت في ذاتها، كيف تقاوم كل ذلك الحضور الكثيف يا رجل؟

حين يلتقون على فترات صارت تطول، وحين يغيب البعض، ثم يعوضون الغياب ببصمة حضورهم من بلاد بعيدة بتلك "الإيموشنات" الملونة وأيضا نصوص الذكريات عبر الواتس آب، يعرف أن الحياة تغيرت كثيرا، وأنه لا مفر من تلك الحياة التي نحملها داخلنا وتمضى معنا زمنا طويلا أن تعلن عن ذاتها، هناك شيء صار يدركه ويكبر معهم على طول الأيام، وفى كل لقاء يبدو أكثر وضوحا، استغراقهم في الحكي، فعندما يجدون شيئا بسيطا يكون داعما لذكرى ما فورا يستوقفونه ليستعيدوا فصلا كاملا مطولا من رواية الماضي، لم يعد يقاوم كثيرا الإصغاء إليهم، ولكنه أيضا ولإبطاء أثر ذلك وفقط حين يشرع الجميع في المشاركة بالحكي كرواة، يسارع باستدعاء عامل المقهى لتبدأ مسابقة أخرى في مصارعة "الطاولة" ومع رمية الزهر الأولى تتحول الوجوه لامعة تستقبل في احتفاء نسائم الشتاء الباردة.

إعلان