إعلان

من أحكام القضاء إلى حكمه

من أحكام القضاء إلى حكمه

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 08 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

انتهى الشق القانوني من فتنة الجزيرتين، وإنْ كانتْ الآثار السياسية لهذه الفتنة ستستمرّ معنا لبعض الوقت. خفوت الصراع القانوني والسياسي حول الجزيرتين يُتيح للنفوس فسحةً من الوقت لتأمّل المشهد، وأركز في هذه القراءة على الدور الذي يلعبه القضاء في أزماتنا السياسية.

أخذ قضية الجزيرتين لساحات المحاكم هو جزء من نمط برز في حياتنا السياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ميلاد أحزابنا السياسية حتى وقت قريب كان يتم في ساحات المحاكم وبأحكام القضاء. ما إذا كان للحكومة أن تبيع القطاع العام، أو تؤجّره، أو تواصل الاحتفاظ به، أصبح في أيدينا قضية تتعلق بتفسير القوانين، وليس بقواعد الإدارة الاقتصادية الرشيدة. الحد الأدنى للأجور في بلادنا يحدده قرار يصدر من على منصة القضاء، وليس نتيجة لأبحاث الاقتصاديين، ومفاوضات النقابيين. تصدير وتسعير الغاز الذاهب لإسرائيل، تحوَّل في بلدنا إلى مسألة قانونية، وليس إلى قضية فنية أولا، وسياسية ثانيا. أحكام القضاء، فيما وراء نقطة معينة، تتحول من “أحكام القضاء” إلى “حكم القضاء”، وهو أمر يستحق الالتفات له.

لقد استسهلنا -سياسيون ومثقفون- اللجوء للقضاء، لنحتكم له فيما يعرض لنا من خلافات مع الحكومة، فيما ترك أهل الحكم الفرصة للقضاء ليقرر لهم أمورًا عجزوا عن اتخاذ القرار فيها. لم نتوقف كثيرًا لنتدارس ما إذا كانت القضية التي نسعى لعرضها على القضاء تقع فعلًا ضمن اختصاصه، ولا لنتدبر تبعات التوسع في اللجوء للقضاء. القضاء من جانبه توسّع في تعريف نطاق اختصاصه، ففي كل اختصاص جديد قوة إضافية تضاف إلى قوته، ومن ذا الذي يرفض اختصاصًا ونفوذًا إضافيًّا يضعه المتخاصمون بين يديه، خاصة لو كانت القوانين المعمول بها في بلادنا يمكن تفسيرها بطريقة لا تخلو من توسع.

النقص في قنوات حل الخلافات السياسية عن طريق الحوار والتدبر والتفاهم والتفاوض والحلول الوسط يدفع المتخاصمين اليائسين للجوء للقضاء. أهل الحكم في مصر لا يُقيمون وزنا للمعارضين وأصحاب الرأي المختلف، الأمر الذي يدفع هؤلاء للجوء للقضاء، علَّهم يحققون من خلاله ما عجزوا عن تحقيقه بأساليب السياسة.

قنوات السياسة ضيقة، هذا صحيح، لكن المعارضة في بلادنا أصابها انحراف قانوني واضح، فقضايا السياسة وصراعاتها يتم اختزالها إلى نصوص ومبادئ قانونية. النضال القانوني أصبح هو الشكل المفضل للعمل السياسي بين المعارضين. ولكي لا يلتبس الأمر، فإن النضال القانوني يختلف عن النضال في إطار القانون. على الجميع، حكومة ومعارضة، الالتزام بالقانون، والعمل في إطاره، فحتى الاحتجاجات يجب تنظيمها وفقًا لما ينص عليه القانون. النضال القانوني –على الجانب الآخر- فيه إسقاط لكل أساليب السياسة وأدواتها، والاكتفاء بأخذ موضوع الخلاف للقضاء لكي يقوم بالفصل فيه. النضال في إطار القانون هو عمل سياسي يحاول من خلاله نشطاء السياسة الوصول للجمهور الأوسع، إقناعًا وتنظيمًا وتحريكًا، أما النضال القانوني فلا يزيد على الجهد الفردي لعدد محدود من القانونيين، الذين يكتبون المذكرات، ويحركون الدعاوى، ويترافعون أمام القضاة.

نوعان من الرسائل تصدر عن أهل السياسة عندما يضعون خلافاتهم أمام القضاء. لقد فشلنا في الاتفاق، والأمل معقود على القضاء للفصل في الخلاف بطريقة سلمية تجنبنا تأجيج الصراع. حسم الصراع قضائيًّا يُصبح، والحال هكذا، طريقة للحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي، وهو دور محمود لا شكّ في هذا. وضع خلافات السياسة أمام القضاء يشير، على الجانب الآخر، إلى وجود مساحة شاغرة نتجتْ عن خلافات أهل السياسة، والمساحات الشاغرة تغري بالتمدد، وتغري بتفسيرات توسع نطاق الاختصاص القضائي المنصوص عليها في قوانين تمَّتْ كتابتها في عصر سابق، كان لدينا فيه سياسيون غير الموجودين بيننا الآن، وكانت فيه علاقات السياسة ومسرحها مختلفة عما نعرفه في زماننا هذا.

إعلان