إعلان

تمثيل عمرو خالد.. من "قصص القرآن" إلى "دعاء الحج"

تمثيل عمرو خالد.. من "قصص القرآن" إلى "دعاء الحج"

د. عمار علي حسن
08:40 م الأربعاء 06 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سَبَقَ أن كتبْتُ عن تمثيل الداعية الأستاذ عمرو خالد، حين عرض "قصص القرآن" في برنامج تلفزيوني بطريقة مُتكلفة عام 2009، دون أن أحْكُم على نِيَّة الرجل، فهذه علمها عند ربي. ثم فوجئت، كغيري قبل أيام، به يقف، على ما يبدو، في شرفة غرفة من الفنادق الفخمة المطلّة على الكعبة، ليدعو لأصدقاء صفحته على "فيس بوك" بالجنة، وزيارة البيت الحرام، ثم لعموم المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، وهو يُغمض عينيه أحيانًا، ويفتحهما بوعيٍ ليرى مدى متابعة الكاميرا التي تُصوِّره وهو في هذه الحال.

وقد انطلقتْ مواقع التواصل الاجتماعي متهكمة على داعية بدا كأنه يخصُّ بالدعاء متابعي صفحته، ما يعني أنه يُروِّج لهذه الصفحة بمنح مُتابعيها وأصدقائه عليها، ميزةَ الدُّعاء من مكة أثناء الحج، وهو ما نظر إليه كثيرون على أنه نوعٌ من التمثيل المفضوح بادِّعاء الخشوع.

في الحقيقة هذه الطريقة ليست جديدة عند عمرو خالد، فقد أخذ مسار "الدعوة" التي يقوم بها منحى جديدًا منذ عام 2009، لينتقل من "التمثُّل" إلى "التمثيل". فقبل هذا التاريخ كان يشْحذ ذهنه ومشاعره وكل طاقة يمتلكها، وخلجة تفيض بها نفسه، ليقنع مُشاهديه ومتابعيه، بمضمون ما يقول، فكنَّا نجده يُحرِّك يديه وشفتيه، ويُخفض من صوته ويرفعه، ويُغمض عينيه ويفتحهما، ويصك أسنانه تارة، ويقبض جبينه ويبسطه أطوارًا، وينتقل ذهابًا وإيابًا بين الضحك والبكاء، وبين الثبات والتقلقل، وبين الهدوء والصخب، ليصنع من كلِّ هذا حالة تخصُّه، اشتهر بها، واستمرتْ معه، وأوحت لكثيرين بتقليده، إلى درجة أن الشباب يتداول تسجيلًا صوتيًا على الهواتف الجوالة، يتخيل المقلد فيه عمرو خالد وهو يُعلِّق على مباراة لكرة القدم، بطريقته هذه، من دون زيادة ولا نقصان.

أمَّا في عام 2009 فقد انتقلتْ طريقة عمرو خالد إلى مرحلة جديدة،لم تختفِ فيها الحركات والإشارات والإيماءات والتمثُّلات القديمة، لكنَّها استمرتْ مطمورة تحت محاولة صارخة لتمثيل «قصص القرآن الكريم»، حيث يذهب خالد إلى ما يعتقد أنها الأماكن التي وقعت فيها أحداث هذه القصص، ويوفر، بمساعدة مخرج البرنامج، مفردات هذه الأحداث، شخصيات وحيوانات وجمادات، ليوهم المشاهد بأنه يعيش لحظة القصة ومكانها، ظنًّا منه أن هذا سيكون أشدَّ تأثيرًا، وأكثر إقناعًا، وأرسخ بقاءً في الذهن والضمير، وأنه سيحقق، على الوجه الأكمل، العظة المقصودة، والقيمة المرصودة، من كل قصة على حدة.

في البداية فإن تمثيل القصص القرآني ليس جديدًا، فبرامج الأطفال، منذ زمن، قتلتْ هذا الموضوع عرضًا، لكنَّها تعرضه عبر "الكارتون" حتى تُقربه من أذهان الصغار، الذين تجذبهم الصورة قبل الكلمة، ويأخذهم الصوت قبل المعنى. لكن هؤلاء ليسوا من يقصدهم عمرو خالد ببرنامجه، إنما يقصد الشباب اليافعين، وربما من طبقات محددة، ومن يأتي بعدهم في العمر، رجولة وكهولة وشيخوخة، حتى النفس الأخير، لأن باب التوبة مفتوح لا يُوصد أبدًا، ورحلة التعلم لا تنتهي على الإطلاق.

لا يختلف اثنان على أن عمرو خالد حسن النية في ما ذهب إليه، وأنه لم يقصد سوى مزيدٍ من السيطرة على عقل ووجدان متابعيه، أملًا بأن تترك هذه القصص بصماتٍ قوية في نفوسهم، تخلع العاصي من غفلته وتزرعه في الطاعة زرعًا، وتزيد المؤمن إيمانًا. لكن النوايا الطيبة لا تكفي، ولا يمكن لنبل الغاية أن يجعل يدنا مطلقة في اختيار ما نشاء من الأساليب أو الوسائل، لا سيَّما إن كانت الغاية مرتبطة بالدين، عقيدة وعبادة ومعاملات، نصًّا وممارسة.

ومن يمعن النظر في الطريقة التي عرض بها خالد قصصه، يجد أنَّ الرجل قد جانبه الصواب هذه المرة لأسباب عديدة يمكن ذِكْر بعضها على النحو التالي:

1 - التجسيد: فعمرو خالد ينقل هذه القصص من فضاء المجاز الواسع، وساحة التخيّل الرحيبة، على فعل مُجسَّد ومستقر الملامح والمعالم، يُحدده الراوي البشري (خالد) بعد أن كان مُطلقًا متجاوزًا ومفارقًا بفعل تحديد مُنزِّل النصِّ (الله سبحانه وتعالى). وآفة التجسيد أنَّها تجعل النص يعلق في الذهن بحسب الطريقة التي يُعرض بها، ويحجب إمكانية تأويله بطريقة مختلفة، أو على الأقل يشوش عليها، أو يفرض أمامها ما ليس سليمًا وصحيحًا بالضرورة، وهو ما لم يقصد القرآن، ولا يمكن أن يتبناه دين يجعل علاقة العبد بربه مباشرة، لا وساطة فيها ولا كهنوت ولا صكوك غفران أو حرمان.

2 - الافتئات: فهناك رؤى أخرى لبعض القصص القرآني، أو جوانب منه، ترفعه فوق أن يكون وقائع تاريخية، يمكن أن نُعوِّل عليها في معرفة دقيقة بمسالك الأمم التي سبقتنا. وبمعنى أكثر دقة، إن البعض يرى أن هذه القصص لم تقع بحذافيرها، ولا تشير إلى تاريخ محدد، إنما هي إحدى وسائل التربية التي اتَّبعها الله جلَّ شأنه وعظُمَتْ قدرته، شأنها شأن الأمثال التي ضربها سبحانه في القرآن الكريم، والتي كانت واضحة لا لبْسَ فيها من خلال القول: "وضرب الله مثلًا...". و"يضرب الله الأمثال...". وعلى النقيض من ذلك يفعل عمرو خالد، عبر منحِه هذه القصصَ سياقاتٍ تاريخية، اجتماعية وسياسية واقتصادية، من دون أن يدري أو يُقدِّر النتائجَ الجارحة التي تترتَّب على هذه المسألة، بل دون أن يكون مُلمًّا بتفاصيل هذه السياقات إلمامًا شافيًا كافيًا، أو جامعًا مانعًا، وذلك في حال ما إذا كان يُمكن التعامل مع هذه القصص بوصفها تاريخًا خالصًا.

3 - تضييق الخيال: وهو مسألة تتعلق بالمقارنة بين الأثر الذي تتركه اللغة المكتوبة، وذلك الذي تُخلِّفه مجرد المشاهدة. فالقراءة أكثر وقعًا في النفس، لأنها تُطلق العنان للخيال، وتُغازل قدرة العقل على التفكير في الأمْر كثيرًا، فإذا كان النصُّ يقصد أن يذهب بتصويره لقصة ما عند حد معين، فإن القارئ والمتدبر يتعدى هذا الحد كثيرًا، ويفهم النص بحسب خلفيته وحالته هو، في انفتاح لا ينتهي على التأويل والفهم المتجدد، الذي لا تنفد فيه العبر والعظات الكامنة في هذه القصص، والتي تتفاعل مع كل واقع يشبه ما صورته، أو يمكن أن تنطبق عليه، لتصبح قصة فرعون مع سيدنا موسى أمثولة لمقاومة الظلم والتجبر، وقصَّة قارون أمثولة لتقبيح البطر والتكبر، وقصة يوسف أمثولة للورع والتدبر، وجميعها مثالٌ عن قدرة الله على رعاية أنبيائه والخسف بأعدائهم، وأعداء الإنسانية.

وبعيدًا من جلال النص القرآني وقُدسيَّته، فهذه مسألة تناولَتْها بإسهاب نظريات النقد الأدبي «المتجهة إلى القارئ» أو التي تتناول النصَّ الإبداعي بوصفه رسالة اتصالية يُصدرها الأديب ويستقبلها القارئ. وهذا لا يتوافر في المشهد السينمائي، الذي يُعطي لمن يتابعه كل شيء، ويُقلِّص مساحة التخيُّل حول تفاصيل المشهد إلى أبعد حد. وهذه أيضًا مسألة باتت معروفة في علم النفس، حين يتحدث عن الأثر السلبي الذي تتركه متابعة البرامج التلفزيونية على عقول الأطفال، حيث تجعلها تتقبل العالم في حالة جاهزة ولا تُجهد نفسها في صنعه وفهمه والتعمُّق في تفاصيله والمشاركة في رسم ملامحه. وقد جسَّد المثل الصيني هذه الرؤية باقتدار حين قال «أخبرني سأنسى. أرني فقد أتذكَّر. أشركني سأعي وأفهم».

4 - الخروج على المألوف: فمن المعروف أن «فن القَصّ» ارتبط في تراثنا العربي الإسلامي القديم بالكذب والتلفيق، وظَلَّ هذا التصوُّر قائمًا حتى عهد قريب، ولذا فإنَّ الرعيل الأول من الأدباء كانوا يتخوَّفون من أن يضعوا أسماءهم على أغلفة الكتب التي تحوي أعمالهم القصصية، لأن هذا من شأنه أن يُلحق بهم استهجانًا في مجتمع لم يكنْ يعرف هذا النوع من الكتابة، وكان لا يَحظى باحترامٍ لديه، شأنه في ذلك شأن العديد من المهن في ذلك الوقت ومنها التمثيل والصحافة وغيرها، علاوة على ما يُقال في هذا الشأن من أن الثقافة الإسلامية تنزع أكثر نحو الحقيقة والواقع، وتنفر من الخيال نفورها من الكذب، ولأنَّ الأعمال القصصية تقوم في جانب منها على التخيُّل، خصوصًا في البداية حين كانت الكتابة الإبداعية ذات طابع رومانسي، فإنَّها قد تكون ضربًا من الكذب، أو تعرية لأحوال أُناسٍ لا يقبلون أن يُفعل بهم هذا. ومن هنا نجد أن محمد حسين هيكل كتب روايته "زينب"، التي تُعدُّ في نظر البعض أول رواية عربية، بإمضاء "فلاح مصري".

وعلى الرغم أن الفن القصصي استطاع أن يُرسِّخ أقدامه في مجتمعاتنا، وانتزع أصحابه اعترافًا قويًّا، فإن النظرة القديمة لا تزال مُسيطرةً على أذهان البعض، خصوصًا من ينتمون إلى المؤسَّسات الدينية التقليدية. وإذا كانت هذه النظرة لا تُنادي أبدًا بوأد هذا الفن، باعتبار أن القرآن الكريم نفسه اتَّخذ القصة وسيلة للتعلم، فإنها تُفرز تشدُّدها حيال تفسير نصٍّ أدبي مُعيَّن. فهنا لا تتعامل تلك المؤسسات، في أغلب الأحوال، مع هذا النص على أنه يَقْبل -شأن النصوص الفنية والبلاغية كافةً- تأويلاتٍ عدة، أو أنَّه يأتي في بعض الأحيان تعبيرًا عن أفكار وتصورات شخصيات القصة في مختلف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية، بل تتعامل معه على أنه رأي بحت للكاتب، وتحاكمه على هذا الأساس. وعلى التوازي يرفض الفقهاء وعلماء الدين الإسلامي فكرة تجسيد صور الأنبياء أو الصحابة الكبار، مثل الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، في الأعمال الدرامية والسينمائية على حد سواء.

وعلى هذا الأساس قد يبدو ما يفعله عمرو خالد خروجًا على المألوف، وكسرًا لتابوات محددة، وتشجيعًا للذائقة الفنية الإسلامية كي لا تستسلم لرؤى بعينها، سلفية وتقليدية. وكان هذا سيصبح أمرًا إيجابيًّا لو أن خالد قد فتَح الباب أمام تأويلات مُغايرة لهذا القصص القرآني، أو استعْرَض التأويلات كافةً التي وردت في كتب المفسرين، تاركًا الباب أمام المشاهد ليختار ما يُريد أو يتفاعل مع التأويل، ربَّما لينتج من يستطيع منهم رؤيته الخاصة، لقصص تنتمي إلى نصٍّ يدعو الجميع إلى التفكُّر والتدبُّر والتذكُّر.

لكنَّ خالد قفز على كل ذلك، فاختار تفسيرًا بعينه، وتبنَّاه، وحاول فرْضَه على المشاهد، بينما لا تُسعفه رؤيته المحدودة وإمكاناته الثقافية البسيطة في أن يستنبط من هذه القصص أي جديد، أو يعلو كثيرًا من الفعل إلى الرمز، ومن الواقع إلى المثال، ومن المحدد إلى المتجاوز.

في رمضان هذا فعل ما يُمكن أن نعتبره تفريغَ أدائه لفريضة الحج من مضمونه، بُغيةَ العودة بأي طريقة إلى الظهور، وما كان عليه أن يقع فيما يقع فيه عموم الناس حين يلتقطون صورًا أثناء الحج ويرفعونها على مواقع التواصل الاجتماعي، مع أنه يفترض أن يكون الإنسان مُنشغلا بالله بكل مشاعره وجوارحه في هذه الساعات، وأن يكون قد ترك الدنيا وراء ظهره، وجاء ليبدأ صفحة جديدة مع الله.

لكن للأسف، فإنَّ الحج والعمرة تحول عند كثيرين إلى نوع من السياحة الدينية يستعْرضون فيها قوتهم المادية، متباهين بالعدد، وحريصين على أن يراهم الناس وهم كذلك لمآرب أخرى، وعمرو خالد واحدٌ من هؤلاء.

إعلان