إعلان

قمة البريكس في الصين وتغيير قواعد العلاقات الاقتصادية الدولية

قمة البريكس في الصين وتغيير قواعد العلاقات الاقتصادية الدولية

د. عبد الخالق فاروق
08:38 م الأربعاء 06 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الخبير في الشئون الاقتصادية والاستراتيجية 

لقد شهدتْ السنوات العشرون الماضية بروزَ ملامح لتكتُّلات ودولٍ فاعلة على المسرح الاقتصادي الدولي، لعلَّ من أبرزها مجموعة السبع الصناعية ( g 7 )، التي تضمُّ كلًّا من الولايات المتحدة، واليابان، وبريطانيا، وكندا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والتي ضمَّت إليها روسيا في عهد "بوريس يلستن"، كتكريمٍ شخصي له، ودوره في تحطيم الاتحاد السوفيتي دون أن يكون لروسيا أيُّ تأثير داخلها، ثم جرى إخراجها وطردها منها بعد أزمة القرم عام 2012. 

كما برزتْ دول مجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوروبية OECD التي تطورتْ عبر عملية معقدة خلال خمسين عامًا لتصبح الآن دول منظومة الاتحاد الأوروبي ومجموعة "الوحدة النقدية الأوروبية" أو اليورو. 

وكذلك برزتْ مجموعة "الآسيان" التي تضمّ حوالي ثلاثين بلدًا من أهم الفاعليات الاقتصادية في آسيا كدول النمور الآسيوية الثماني، مضافة إليها الصين والهند، ومحاطة بدول صاعدة أخرى مثل إندونيسيا وفيتنام والفلبين.

وبالمثل شهدتْ دول أمريكا الجنوبية عملية متعثرة، استقامتْ منذ حوالي عقدين فقط، لتصبح مجموعة متماسكة في رؤيتها للدفاع عن مصالحها الاقتصادية، برغم التباينات والاختلافات الملحوظة في توجهات حكوماتها من الناحيتين السياسية والأيديولوجية. 

وكذا برزتْ خلال الثلاثين عامًا الأخيرة قوتان صاعدتان ومؤثرتان على المسرح الاقتصادي الدولي هما: الصين والهند، وقد حاولتْ الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي منذ عام 1999 تشكيل تجمّع دولي جديد يكون أقرب إلى توسيع إطار مجموعة السبع، ويمثّل سحبًا لنفوذ تكتلات دولية هنا وهناك، فيما سُمِّي بـ"مجموعة العشرين"،كمحاولة لاحتواء أثر التكتلات الدولية الأخرى، ومحاولة "أربكان" في تركيا وتيّاره السياسي تشكيلَ ما يُسمَّى "مجموعة الخمس عشرة الإسلامية"، وقد تفكَّكتْ هذه المجموعة فعلًا بسبب المواقف المائعة لبعض أعضائها.

لقد تشكَّلتْ مجموعة العشرين التي من المتوقع أن تلعبَ الدورَ الأكْبر في عمليات التفاوض القادمة من: 

-مجموعة السبع الصناعية الكبرى: 

-روسيا والصين والهند 

-البرازيل والمكسيك والأرجنتين 

-السعودية وجنوب أفريقيا 

-أستراليا وإندونيسيا والباكستان 

وهكذا نُحِّيت جانبًا دولٌ ذات ثقلٍ اقتصادي، ولكنَّ مواقفها السياسية لا تتفق والأطراف الأوروبية والولايات المتحدة، مثل فنزويلا وإيران. 

ويبلغ الناتج المحلي لتلك المجموعة حوالي 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بما يجعلها الأكثر ثُقلًا في النظام الاقتصادي الرأسْمالي الحديث.

وتشير النتائج الأولية لاجتماعات مجموعة العشرين التي تمت في العاشر من نوفمبر الماضي في العاصمة البرازيلية "ساو باولو"، إلى تركز المفاوضات الأولية –التي قد تستمرُّ شهورًا طويلة– على الإقرار بعجز الأطر المؤسسية الراهنة (الصندوق والبنك) عن إدارة كُفْأة للشأن الاقتصادي الدولي، والإقرار كذلك بضرورة إجراء تعديلات هيكلية فيها، دون أن يتطرقوا بعد إلى طبيعة تلك التعديلات المطلوبة. 

كما تشكَّلتْ في عام 2006 مجموعة البريكس BRICS المكوَّنة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، التي تُشكِّل حوالي ثُلث الناتج المحلي العالمي، ونصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة على الصعيد العالمي، وأكثر من نصف سكان العالم، وأصبحتْ بحلول عام 2017، وعشية الاجتماع الأخير لها في الثاني من سبتمبر عام 2017 بمدينة "شين يانغ" الصينية، تمتلك رؤيةً استراتيجيةً متكاملةً بشأن تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة عبر نظام مُشوَّه للمدفوعات الدولية (الدولار)، والنظام النقدي والمصرفي الدولي، على العالم أجمع. 

ولعلَّ أهم ما يُميِّز السلوك الاقتصادي لمجموعة دول البريكس ومعها إيران وفنزويلا، اللجوء إلى أساليب التجارة فيما بينها عبر نظام مختلف للمدفوعات المالية قائم على فكرة التعامل بالعملات المحلية لكل منها، وهو ما تطوَّر في المؤتمر الأخير لمجموعة البريكس عبر طرح ما يُسمَّى صندوق سندات بالعملات المحلية لكل منها، يسمح بالتبادل التجاري بعيدًا عن النظام الراهن للمدفوعات الذي يُهيمن فيه الدولار الأمريكي على نمط التجارة الدولية، ويزيد على ذلك ما تطرحه وتضعه المجموعة في صلب برنامجها بإنشاء بنك للتنمية تتولى فيه الصين حِصَّة من رأس ماله بحوالي 40%، وتُخطط المجموعة –وتحديدًا روسيا والصين- إلى تمويل مشروعات الطاقة والكهرباء والبنية السياسية والمشروعات التكنولوجية في دول الجنوب، وبالتالي تقليص تدريجي لنفوذ مؤسَّستَيْ البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين يُهيمن عليهما الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا. 

وقد خطتْ مجموعة البريكس خُطوة للأمام من خلال توسيع إطار العضوية المراقبة –غير الكاملة وتحت التجربة– وضمَّتْ إليها فيتنام وتايلاند وكوريا الجنوبية ومصر وطاجيكستان والمكسيك وغينيا، ومن المتوقع ضمُّ إيران للعضوية الكاملة في الشهور القليلة القادمة.

على أية حال، إذا حاولنا التنبؤ بمسار تلك المفاوضات والصراعات الاقتصادية الدولية، والتي عكستْها حالة القلق العالمي من عدم كفاءة بناء "بريتون وودز" ومؤسساته في ملاحقة وضبط المعطيات والمتغيرات الجديدة التي طرأتْ على النظام المالي والاقتصادي الدولي، نستطيع أن نؤكِّد أنَّ هذه الأطراف سوف تتفاوض خلال السنوات الخمس القادمة على شكلٍ جديدٍ للعلاقات الاقتصادية الدولية، وسوف يَبْرُز تياران رئيسيان في النظر للمعالجات المستقبلية: 

- التيار الأول: تُمثِّله الولايات المتحدة وقد يضمُّ إليه السعودية وأستراليا واليابان وبعض الدول التابعة في أوروبا ودول الجنوب. 

- التيار الثاني: سوف يضمُّ بعض دول الاتحاد الأوروبى أو ممثليه في المجموعة مضافًا إليها مجموعة البريكس التي يتوقع أن تضم إليها في المستقبل القريب إيران وبعضَ دول الجنوب، يدفعون في طريق تغيير قواعد اللعبة والتقليص من النفوذ الأمريكي على فاعليَّات النشاط الاقتصادي والمالي عبر المؤسسات القائمة أو من خلال القرارات المنفردة. 

بيد أنَّ مسار عملية التفاوض لن تتوقَّف على أعضاء مجموعة العشرين، بل إن هناك قوى وأطرافًا أخرى سوف تدفع إلى تجميع رؤى أكثر ريديكالية في تغيير قواعد عمل النظام الاقتصادي والمالي الدولي، وفي طليعة هؤلاء فنزويلا وإيران وبقية الحكومات اليسارية في أمريكا الجنوبية (تشيلي– نيكاراغوا – بوليفيا – كوبا – الأكوادور)، وربَّما تفلح في استمالة مواقف دول مثل الهند أو روسيا في إطار عملية صراع وتفاوض دولي واسع النطاق وعسير المسار. 

ثانيا: مجالات التفاوض 

لقد تنوعتْ الأفكار والأطروحات المقدمة من جانب الدول والحكومات كافةً، بعد الفزع والانهيار الذي أصاب الجميع في أكتوبر من عام 2008، وقد تركَّزتْ الأفكار الأولى على محورين أساسييْن: 

- المحور الأول: البنية المؤسسية institutional المسئولة عن إدارة الشأن الاقتصادي والمالي الدولي، وفي طليعتها صندوق النقد الدولي IMF والبنك الدولى IB وأخيرا منظمة التجارة الدولية TWO . 

- المحور الثاني: الإدارة العملياتية operational للشأن المالي والاقتصادي الدولي مثل: 

1- نظم إدارة البورصات العالمية ونظم التداول فيها. 

2- نظم إدارة الأوراق المالية وطبيعتها والموقف من المشتقات المالية. 

3- نظم إدارة النظام المصرفي ووسائل الحماية من المخاطر والملاءة المالية، ونظم الإشراف والرقابة على أعمالها، فلم تعد قواعد "بازل" الأولى والثانية كافية لضمان إدارة كُفْأة للنظام المصرفي. 

4- نظم إدارة الأصول والاحتياطيات المالية والنقدية للدول والحكومات. 

5- نظم جديدة لإدارة أسعار الصرف فيما بين العملات الرئيسية، ودرجة سيطرة البنوك المركزية أو الفيدرالية، بما يسمح بتوفير المرونة للبنوك مع إحكام الرقابة والسيطرة ضمانًا لحقوق المودعين ودرءًا لمخاطر التوسع في المضاربة عليها. 

6- نُظُم التجارة وتمويلها وتحرير الخدمات، وحدود الدعم الحكومي الغربي للمزارعين، وإجراء مراجعة فعَّالة لمبادئ واشتراطات اتفاقية التجارة الحرة (أوراجواي 1994) وتعديلاتها اللاحقة. 

7- ولا يُستبعد بالطبع بحث نظم تسويق وتسعير المواد الخام، وفي مقدمتها النفط ومشتقاته.

وتحت هذه العناوين الكبرى سوف تُجرى مفاوضات شاقَّة جدًّا وعسيرة إلى أبعد مدى قد تطول لعدة سنوات، وأثْناؤها قد تتلاقى مصالح بعض أطرافها (مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي) في بعض القضايا، بصرف النظر عن موافقة بقية الأطراف، ممّا سيزيدُ الأمرَ صعوبةً، ويدفع إلى مزيد من الاستقطاب الدولي بين دول من داخل مجموعة العشرين وبين دولٍ من خارج المجموعة، مما سيُضيف إلى حالة الانقسام والاستقطاب الدولي بين دول الشمال والجنوب أبعادًا أُخرى، قد تُعيد توزيع علاقات المصالح والتحالفات الدولية (روسيا والهند قد تجدان نفسيهما أقرب إلى بقية التوجهات الريديكالية لدول الجنوب التي تتزعمها فنزويلا وإيران وكوبا وبوليفيا). 

ومن المؤكَّد أنَّ الموقف الأمريكي سوف يظلُّ –سواء تحت قياداته الجمهورية أو الديموقراطية– أقرب إلى الإبقاء على البنية المؤسسية والعملياتية الدولية القائمة الآن، التي تسبَّبَتْ في الكارثة الاقتصادية التي يعيشها العالم اليوم، وإن كان الديمقراطيُّون أمْيَل لقبول بعض التعديلات الجُزئية في النظام الاقتصادي الدولي، بحيث تتواءم مع بقاء واستمرار هيمنتهم على حركة التدفقات المالية النشطة، التي تدب في شرايين اقتصادهم برغم المديونية الهائلة التي تتراكم على اقتصادهم. 

إننا إزاء عملية تاريخية جديدة، قد تؤدي سياسات الرئيس الأمريكي الجديد (دونالد ترامب)، والتخبط الأمريكي الراهن في مسرح السياسة الدولية، إلى التشجيع على الخروج من الهيمنة الأمريكية المُطْلقة على بعض الأطراف الدوليِّة وخصوصا في أوروبا وآسيا ودول الجنوب.

إعلان