إعلان

شرفات المساء

شرفات المساء

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 29 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إناء زجاجي صغير تسترخي داخله زهرة، يستقر في مكانه فوق سور الشرفة التي تمتد بواجهة المكان .. كان يقول بصوت يشبه الحفاوة: صباح الخير، كلما مر على هذا الإناء وتلك الزهرة، تيقن تماما أن ذلك البيت ربما يعرفه شخصيا وأنه صديق طيب، كما نما في داخله تأكيد تزايد كل يوم أن في هذا البيت أناسا يحبون الموسيقى وربما يقرأون الشعر في الأمسيات، وقد يكون لديهم متسع من الوقت لرسم سماء ونجوم، وأن تلك السماء – ذات ليلة بهية - ربما تمطر عليهم فتمنحهم ذوقا طازجا محتشدا بمحبة الحياة كل يوم ومعه تلك الزهرة.

لم يشاهد أحدا منهم أبدا في مروره المتكرر على البيت، لكنه قدر كل ذلك، وكان يسأل متعجبا: وهل هناك أفضل من بشر لديهم بعض من الوقت كل صباح ليزينوا واجهات الحياة ويضعوا عطر زهرتهم اليومية في وجوه كل العابرين؟ من وقتها أحب ذلك البيت، أحب شكل الشباك ولون العشب الذي ينمو تحت الأرصفة الممتدة على جوانب الحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت، وتلك الشبابيك الأرضية ذات اللون الأخضر الذي بهت من تعامد ضوء الشمس خلال سنوات توالت.

حتى ذلك المقعد الخشبي الذي يأخذ مكانه في ركن الحديقة ويظهر دوما شاغرا، أحبه كثيرا، اكتفى بما يعرفه ولم يبحث عن تفاصيل أخرى أبدا تخص غير مايراه ويألفه، هكذا شكل المكان جزءا من مزارات ونس الأيام وسعادتها، أشجاره القلائل متناثرات في تنسيق عفوي مدهش، حتى وبعد أن بعدت المسافات ومر زمان طال، كان كلما مر وقت صعب، يتذكر المكان، ويسعى لتثبيت المشهد القديم فلا يبارح ذاكرة بهجته، ويذهب إلى هناك، نعم يعرف أنه وعبر السنوات اختفت الزهرة، وتهدمت بعض أطراف السور وظهرت مساحات أرضية بنية على جوانب الشرفة التي صارت أقرب كثيرا إلى الأرض، ورويدا أخذت تتقلص امتدادات العشب، لكن دوما بقيت رائحة أحبها واحتفظ بها، يشعر أنه يستقبلها فيبتهج كلما مر.

عرف من مروره على المكان أشياء كثيرة كانت تغيب عنه، أن يدرك أن الحياة يمكن أن تحلو بلا كبير تغيير في أشياء العالم الرتيب، وأنه يمكن أن يتسامح مع الكون دون حسابات معقدة أو انتظارات، في تلك اللحظة المدهشة المباغتة التي لن يعلن عنها يحدث كل ذلك، وبمجرد أن يمر على مكان ذكرياته الطيبة، ستمنحه المصادفة حق رؤية بهجاته متقافزة متناثرة يجمعها كزهور ويمضي بها، بعدها سيعلو صوته بشيء يشبه الغناء.

وسيعرف كيف يكون شعور ضحكة الطفل الأولى، هكذا شاهقة بلا انتهاء، وسيتجسد لديه حاضر ما قرأه عن شعور التواجد فوق قمة جبال الأوليمب بينما العالم في الأسفل يستغرق في حكاياته اليومية المكررة، يتذوق طعم ملح البحر المتوسط عند أقصى مكان وصول الموج، سيمتن كثيرا دون أن يقول لكثيرين منحوه بعض مودتهم ودفء كلماتهم، وبلا أفكار مسبقة سيكتب شيئا رومانتيكيا زاعقا عن ألوان الحياة الحلوة، وصفو بعض مواقيتها في مصادفة تجود متأخرة لكن لا بأس، وسيدرك جماليات الرسم في شرفة تطل على السفن البعيدة.

يغادر المكان ويفتح إذاعة الأغاني، يسمع ماتجود به مبتسما، وحين يهبط من العربة في مكان قريب قديم ألفه، يضع يده في جيبه ويمشي في اتجاهه، سيكون المساء المتأخر حل وهو يحمل معه هدوء الشارع الذي يقصده، ويكون الجو باردا تماما، يستنشق برودة نسماته وهو يسير متمهلا، حتى يقترب كثيرا من المكان الذي يحب أن يجلس فيه، ينظر نحو الشجرة الكبيرة التي ترتفع إلى الجوار، حيث يحب في المساءات الشتوية أن يجلس بكرسيه مستندا إليها، يأخذ كرسيا خشبيا جميلا ويمضي به إلى حيث جلسته التي يحبها، يبدأ في إعادة ياقة السويتر إلى وضعها بغير اهتمام كبير، ينظر متابعا أبخرة الشاي المتصاعدة من الكوب الزجاجي وهي قادمة نحوه، كان صوت أم كلثوم يأتي مترقرقا من الراديو الكبير الموضوع على مسند خشبي يبدو كأنه شيء قديم منسي "زي الغصون لو بعدت يوم"، يبتسم وهو يكمل معها: "جه النسيم قرب بينها".

إعلان