إعلان

أيامي مع خيري شلبي (2)

أيامي مع خيري شلبي (2)

ياسر الزيات
08:17 م الأربعاء 13 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

التقط خيري شلبي خمسة شعراء، على الأقل، كانت أعمارهم دون العشرين، في الأمسية التي حضرها لتكريم الشاعر محمد مهران السيد، في منتصف الثمانينيات في سوهاج. كان يجلس في الصف الأول، منصتا بتركيز شديد لا تقطعه إلا علامات دهشة أو إعجاب بين وقت وآخر. كان وجوده في سوهاج حدثا كبيرا بالنسبة لهؤلاء الشعراء صغار السن، المتمردين، المشاكسين، الصعاليك. وكانت كتابته عنهم هي الحدث الأكبر - ربما- في مسيرة أغلبهم. وفي تلك الليلة، قال لي: "تعال إلى القاهرة. مستقبلك الشعري هناك"، وهذا ما كان.

اختارت القاهرة أن تستقبلني بوجهها القاسي، فقضيت فيها شهورا من التشرد والجوع والفقر والبطالة، حتى أصابني اليأس، فقررت العودة إلى طما في سوهاج، وتنفيذ نصيحة أبي بالعمل مدرسا للغة الإنجليزية. ولم يكن لي أن أودع القاهرة دون أن أودع خيري شلبي، ربما لأعتذر له عن يأسي وعدم قدرتي على احتمال المزيد من "البهدلة" في هذه المدينة القاسية. ذهبت إليه في مكتبه في مجلة الإذاعة والتليفزيون: (1117 كورنيش النيل- ماسبيرو)، فاستقبلني بالعينين المحبتين الحنونين ذاتيهما، لكن تلك المحبة الحنون في عينيه تبدلت إلى قلق عندما نظر في عينيّ، ورأى فيهما قراري. قلت له إنني تعبت، وإنني "مش حمل بهدلة"، وإنني قررت الرجوع إلى البلد. قال: "انتظرني هنا عشر دقائق"، ثم غاب دقيقتين، وعاد ليقول لي: "ده مكتبك". كان المكتب الذي يشير إليه مواجها لمكتبه مباشرة، وعرفت لاحقا أنه كان مكتب الشاعر محمد مهران السيد، والروائي الكبير عبد الوهاب الأسواني. ثم قال لي: "تعال معي. الأستاذ جلال عايز يقابلك". كان يقصد الأستاذ محمد جلال رئيس تحرير المجلة في ذلك الوقت، الذي أصبح - لاحقا- أول معلم لي في عالم الصحافة. لم يكن مظهري يليق بمقابلة عمل، ولا بمقابلة رئيس تحرير في زمن كانت فيه لرئيس التحرير هيبة و"شنة ورنة"، فدخلت مترددا، مرتبكا، لولا أن الأستاذ جلال أنهى حالتي تلك باستقبال مرحب ودود. أجلسني على المقعد المجاور لمكتبه، وجلس عم خيري أمامي، وناولني الأستاذ جلال موضوعا مكتوبا على ورق الدشت، وطلب مني قراءته، فقرأته. سألني: "ما رأيك؟"، فقررت أن أقول رأيي بصراحة، "وليكن ما يكون". أجبته: "وحش جدا"، فقال لي: "طيب اكتبه زي ما انت تحب تقراه"، وأصبحت هذه مهنتي إلى الآن: أن أعيد كتابة المواضيع كما أحب أن أقرأها.

كان أمرا مربكا أن أجلس على مكتب جلس عليه قبلي أستاذان كبيران هما مهران والأسواني، ويجلس على مكتب مجاور الناقد المسرحي الأستاذ جلال العشري، في حين يتناوب على الجلوس في المكتب المواجه لي الأساتذة مصطفى مجاهد وخيري شلبي، ومعهما سامي السلاموني ذات نفسه بشحمه ولحمه: "ماذا أفعل، أنا العيل الصغير وسط كل هؤلاء الكبار بقاماتهم؟". ثم كيف أتعامل مع خيري شلبي كزميل، وهو الذي أعتبره أستاذا وأبا وسندا؟ لا بد لي أن أبذل كل جهدي لكي لا أقصر رقبته، في هذه المهنة التي بقيت شهرا لا أعرف لها اسمها، إلى أن عرفت أنهم يقصدونني عندما يتحدثون عن "الديسك". 

انقلبت حياتي للمرة الثانية، وكان الفاعل دائما هو خيري شلبي: حرضني في المرة الأولى على الهجرة إلى القاهرة، وهو الآن يمنحني فرصة عمل، تنجيني جزئيا من التشرد وأهواله. سيبقى جميل هذا الرجل في عنقي إلى أبد الآبدين، حتى بعد أن شهدت علاقتنا بعض التحولات والشد والجذب في أوقات لاحقة. كان شيء ما قد تغير، على أي حال، في علاقتي بعم خيري، وبقي هذا التغير محيرا بالنسبة لي لسنوات، إلى أن أدركت متأخرا جدا أن السر يكمن في أنني أعامله كأب، وأمنحه سلطة الأب، فيما يعاملني كزميل، ويتيح لي ندية الزميل. ما أبعد المسافة بين النقطتين، وما أقساها لمن لم يدركها.

 

إعلان