إعلان

الفاجومي

خيري حسن

الفاجومي

خيري حسن
09:00 م الثلاثاء 12 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«وكل يوم في حبك/ تزيد الممْنوعات/ وكل يوم باحبك/ أكتر من اللي فات»، ذات يوم شديد الحرارة في عام 2006، ذهبتُ إلى الشاعر المتمرد قولاً وفعلاً وشعراً، أحمد فؤاد نجم (23 مايو 1929 ـ 3 ديسمبر 2013)، في شقته القديمة بعمارات الزلزال فوق جبل المقطم، وأنا في طريقي إليه كنت مندهشاً من قدرة الجبل وقوته على حمله -فوق ظهره- شاعراً بداخله كل هذا الغضب، والتمرد، والرفض والقدرة على إشعال الثورة -بكلماته- داخل قلوب مُحبّيه. وظلّتْ -على سبيل المثال- كلمات قصيدته «الممنوعات»، تُواصل حضورها الطاغي في أذني بصوته المميز، المعبر، الثائر وهو يقول: «ممنوع من السفر ـ ممنوع من الغُنا ـ ممنوع من الكلام ـ ممنوع من الاشتياق ـ ممنوع من الاستياء ـ ممنوع من الابتسام»، وقبل أنْ تنتهي ممنوعاته، كنت انتهيت من شارع 9 الذي يوصلني إليه. اقتربت من باب العمارة التي يسكنها، على باب شقته سمعت صوته من الداخل يضحك من قلبه، وبنفس الضّحكة والابتسامة استقبلني. جلسنا، ضحكنا، تحدثنا، سألني: الناس في الشارع أخبارها إيه؟ ـ هو يتحدث ويسأل عن الشارع المصري في عام 2006، قلت: عايشين!! هز رأسه وسكت قليلاً وأشعل آخر سيجارة كانت أمامه.. وقال: «الظروف صعبة، والناس تعبانة. ربنا يكون في عونك يا مصر»!

قلت له: شعرك يعلن دائماً أن الكلمة ممنوعة. والشكوى ممنوعة، والضحكة ممنوعة، والبسمة ممنوعة، علماً بأنك في الواقع ضد كل الممنوعات، تسافر وتتكلم وتشكو وتهاجم وتشتم أحياناً، وتضحك وتبتسم طوال الوقت، لدرجة أن البعض يخاف من الجلوس بجوارك حتى لا يسقط على «قفاه» من الضحك! رد قائلاً: الذي لا خلاف عليه، بالنسبة لنا ـ كمصريين ـ أنّه كلما زاد المنع، زاد الابتسام. وكلما زاد القهر، زاد الضحك. المصري بطبعه يخلق دائماً الأجواء التي تلائمه وتناسبه وتجعله يعيش ويتعايش مع الواقع الذي يجد نفسه فيه، وأنا طفل صغير في عزبة «أبونجم» بمحافظة الشرقية، وبعد خروجي من الملجأ الذي عشت فيه عشر سنوات، لم أجد في جيبي مليماً أعيش به.. وأمي كانت فقيرة، وأبي لا نعرف عنه شيئاً. يومها ذهبت للعمل في أرض عمي.. وفشلت أو بمعنى أدق طردني من أرضه، فذهبت إلى تفتيش الملك كعامل زراعي أتقاضى أجرة قرشين ونصف القرش في اليوم، وكنت أمشي سبعة كيلومترات يومياً ذهاباً وعودة، وكان هذا المبلغ أعيش به أنا وأمي، وفي ليلة جلست حزيناً أكاد أبكي، قالت أمي: «مالك يا واد يا أحمد»؟ قلت لها: «كيف سنعيش في هذا الفقر ونحن لا نملك من الدنيا أي شيء». ردت وعلى وجهها حالة رضا: «لا تخف من بكرة.. بكرة رزقه جاي! يا أحمد.. لا يوجد أحد في هذا البلد ينام من غير عشا»! وأظنها هنا كانت تقصد أننا نستطيع أن نتعامل مع أصعب وأشد المواقف. نواجهها ونروّضها ونمتصّها ونعيش معها، ثم ضحك وقال: يا سلام عليكِ يا مصر.. هل رأيتَ شعباً في العالم يحتفي بالفقر والجوع، لدرجة أنه يُطلق على شارع من شوارع بلده اسم «صايم الدهر» غيرنا! وكأنّه من الجوع صام العام كله. ابتسمتُ وقلتُ له: يا عمّنا.. لكن هذا الشارع الذي يقع في حي شبرا بوسط القاهرة قال عنه المؤرخ العربي المقريزي الذي توفي عام 1436 ميلادية سُمِّي على اسم رجل دين كان اسمه «صائم الدهر»، ولا علاقة للمسمّى بالفقر. وأن هذا الشيخ ذهب بمفرده إلى منطقة الأهرامات وشوّه وجه أبوالهول. وهذا التشويه ما زال حتى اليوم. رد قائلاً: حتى وإن كان ذلك كذلك، إنما المصريون أعجبوا بالاسم وأطلقوه على الشارع تعبيراً عن فقرهم وجوعهم طول السنة.

وهذا هو المصري بتركيبته الغريبة والعجيبة.. فرغم الفقر الذي يُحاصره ويخنقه وربّما يقتله، فإنّه يتحمله ويصبر عليه إلى حين، وعندما يأتي هذا «الحين» ينطق وينفجر بداخله السكات. ثم سكت قليلاً وكأنه يتذكر كلمات، ومد يده يرتشف ما تبقى أمامه من فنجان الشاي، وقال: ـ سُكات.. سكات.. سكات/ لكن لسكاتنا معنى/ أنْطَق من الكلام/وكل من سِمعنا / يفهمنا بالتّمام/ وحق من جمّعنا/ ليِنطق الكلام/ ويقول الصمت مات!

إعلان