إعلان

سلوكيات إسقاط الدولة

سلوكيات إسقاط الدولة

أمينة خيري
08:21 م الإثنين 07 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أمينة خيري

لا جنيهًا معلقًا بين السماء والأرض سيسقط هذه الدولة. ولا عملياتٍ إرهابية مُنحطة ستنال منها، ولا مؤامراتٍ خارجية ومخططات إقليمية ستزعزع أمنها، ولا "جزيرة" ولا قطر ولا تركيا ومن يقف خلفها ووراءها وأمامها سينال من دعائم تثبيت الدولة المصرية، لكنّ القادر على فعل كل ما سبق وأكثر هو أخلاقنا المتردية وسلوكياتنا التي ذهبتْ في خبر كان.

كان فيما مضى يقال، إن المصريين رغم مشكلاتهم الحياتية اليوميّة، إلا أنهم شعب عظيم، شهامة وجدعنة وطيبة وعادات وتقاليد متوارثة، تعطف على الصغير، وترحم المسكين، وتحترم الكبير إلى آخر قائمة محاسن الأخلاق.

ومر على المصريين شيء و"شويات": استعمار، غزو، احتلال، عدوان، استغلال، فساد، قهر، ظلم، استبداد، إلخ، لكن أخلاقهم ظلت محتفظة بمقوّماتها الأصيلة، وسلوكياتهم حافظت على هامشٍ كبيرٍ من الرُقِيّ الذي يميّز الإنسان على الحيوان. 

لكن المتابع والمعايش للشارع المصري الحالي يشعر أن الأخلاق لم تمر يومًا بهذه الأرض. وبعيدًا عن شماعات سخيفة تربط بين الفقر وتدني الأخلاق، أو تعلق انحطاط السلوك على شماعة القهر والظلم والفساد، أو ترفض اتهام الشعب لأنه "تعبان"، فإن ما وصل إليه الشارع المصري من تدنٍ أخلاقيّ شبه كامل لا مبرر له. 

تبريرات غياب قبضة القانون وترك أوضاع الشارع المرورية مثلًا تضرب تقلب عن عمد قد تكون عاملًا مساهمًا في تأجيج حالة الانحطاط، وتفسيرات حالة الاكتئاب الجمعي والتشاؤم الشعبي قد تكون عنصرًا مساعدًا، وتعليلات شيوع ثقافة العشوائيات وخروج أجيال صغيرة تربت في كنف تحلل التعليم وانهيار الخدمات الرئيسية للدولة من صحة ورعاية وتنشئة وترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها أمام جماعات التديّن قد تكون –كذلك- لاعبًا داعمًا. لكن كل ما سبق لا يبرّئنا – نحن الشعب- مما وصلنا إليه من بشاعة في التصرفات والسلوكيات. 

حوار على "فيس بوك" بين أصدقاء، دار حول الروائح الكريهة التي تنبع من أجساد الركاب في عربات مترو الأنفاق. وبينما البعض يؤكد أن النظافة الشخصية لا تستوجب مزيلات عرق قد لا تكون في متناول الجميع، وأن الاستحمام اليومي ليس مكلفًا، إلخ، إذ بفريقٍ ثوريٍ غاضبٍ يؤكد بعض أفراده أن "القهر والظلم" يمنعان الناس من الاهتمام بمثل هذه الأمور، البعض الآخر أشار بكل ثقة إلى أن مثل هذه الشكاوى تنم عن طبقية مفرطة وعنصرية مقيتة لا تتناسبان والحال المزرية التي يعيشها الشعب!

الشعب الذي حلّل بعضه النصب والاحتيال لأن "العيشة صعبة"، ورحّب بالتحرش وباركه لأن البنات ملابسها غير مطابقة لمواصفات الأيزو القادمة من دولٍ أخرى، واعتبر قواعد المرور لاغية لأنه لا يرى غَضاضةَ في السّير عكس الاتّجاه، أو إيقاف سيارته في عرض الشارع، واعتبر الكذب والتدليس و"اللكلكة" بين الصنايعية شطارة وفهلوة، وتعامل مع تلال القمامة وإلقاء المخلفات على الطريق أمرًا عاديًّا، ولم يعد يزعجه قبح المعمار، ووقع الشتائم المترددة، على الألسنة نهارًا جهارًا، واعتبر السخرية من مريض نفسي خفة دم، وتعذيب أطفال ومراهقين لحيوان صغيرٍ ترفيهًا لا ضرر فيه، وغيرها من مشاهد حياتنا اليومية قادر على إسقاط دولته.

إسقاط الدولة ليس مؤامراتٍ خارجية تحاك، أو مؤامراتٍ أممية تدبر، أو جهودا شريرة تُبذل من غرباء فقط. 

إسقاط الدولة إسقاطًا سريعًا لا رجعة فيه، دائرة رحاه على مدار الساعة في كل شارع وميدان، وفي كل عمارة ومؤسسة، وفي داخل كل من يعتبر نفسه مجرد فردٍ، لن تسفر تصرفاته وسلوكياته عن ضرر كبير.

ولولا أني لستُ من هواة الإفتاء لقلت: إن التدني الأخلاقي والسلوكي الحالي من الكبائر بالغة القبح، ومكمن القبح فيه هو هالة التديّن المظهري الشفهي التي تحيط به.

إعلان