إعلان

مناور كوبنهاجن

مناور كوبنهاجن

أمينة خيري
08:00 م الإثنين 21 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

جلد الذات ليس مطلوبًا، ولا تأنيب النفس دائمًا وأبدًا. لكن في حالتنا المستعصية، يكون الجلد مطلوبًا بل محتومًا، وتأنيب النفس محتومًا ومفروضًا. وحين تفتح نافذة غرفتك متناهية الصغر في فندقك في كوبنهاجن لتجده مطلًّا على مَنْوَر فربما تتضايق وتتأفف.

لكن مَنْوَر كوبنهاجن ورود وأزهار ورياحين وأضواء خافتة وقعدات هادئة. المنور المقصود حيث مصب بنايات عبارة عن مظلات واقية من الأمطار. وتحتها مقاعد وطاولات خشبية. وحولها أصائص ورود وأزهار ضخمة. ويكلل المشهد الدرامي شجيرة قصيرة سميكة مزهرة وورود حمراء كثيفة تجعلك تحلم بالعيش في مَنْوَر.

مَنْوَر كوبنهاجن لا يقتصر فقط على خلوِّه من تنظيف أسماك مدام عنايات، وأكياس قمامة الحاجة أسماء، والردش الناتج عن تجديد شقة الأستاذ فتحي، وكراكيب عيادة دكتور ممتاز، لكن فيه درّاجات موظفي الفندق مرصوصة صفًّا مستويًا، وفيه طفاية حريق بموجب القانون، ومزود كذلك ببالوعات لصرف مياه الأمطار الزائدة، ومزدان بإضاءة خافتة لمن أراد أن يستمتع بالجلوس في منور كوبنهاجن ليلًا.

الليل البهيم الذي نعيشه من قذارة ممتدة وقمامة مرتدة بات واقعًا. لكن الأبشع منهما اعتياد القبح واستحسانه. ويتجلى ذلك واضحًا في نفس كل من رأى منور كوبنهاجن ولم يجلد الذات ويوسعها ضربًا وتعذيبًا. فكيف لبشرٍ ينحدرون من آدم نفسه وحوّاء ذاتها أن يجعلوا من مَنْوَر نكرهه ونمقته في مصر لقذارته المفرطة وقتامته المهلكة مكانًا رائعًا؟ وكيف لبشر آخرين أن يعتادوا العيش في مزبلة كبيرة دون أن تهتز لهم شعرة أو تدمع لهم عين؟!

عيون الجالسين والجالسات على مقاهي حي الكوربة (مصر الجديدة) الذي كان جميلًا راقيًا عذبًا اعتادت الاستمتاع بينما هم غارقون في مقالب قمامة مهيبة. فتحت أرجلهم قمامة وعلى الجانب الآخر من الشارع قمامة وفي ميدان الكوربة الصغير قمامة وأمام محلاتها الشهيرة قمامة وحول بواكيها الرائعة قمامة وهَلم جرّا.

وقد جرى العرف أن تُعتبر الكوربة حيًّا فاخرًا، فما بالك ببقية أحياء المحروسة؟! وجرى العرف أيضًا أن يعلق كل منّا قذارتنا واعتيادَنا القبح اعتيادًا مرضيًا على شماعة تناس أيديولوجيته. فهناك من يرى أن مقلب القمامة الكبير الذي نعيش فيه نتاج حكومات فاشلة أخفقت في التعامل مع منظومة القمامة. وهناك من يعتبره نتيجة حتمية لانقلاب العلمانيين الكفرة على نظام الإخوان بتاع ربنا. ومنهم من يلقي بالأمر برمته على النظام السياسي الذي لا يعين عسكري يمشي وراء كل مواطن يلتقط زبالته. وهناك من يتهم جامعي القمامة لأنهم يجمعونها من البيوت ثم يأخذون أغراضهم منها ويلقونها في الشوارع. والقائمة طويلة لكنها تخلو في الغالبية العظمى من اتهام الشعب باعتياد القذارة واستحسانها.

الشعب المتديّن بالفطرة الذي حول أرصفة إلى مساجد، وجعل في كل محطة مترو ومؤسسة حكومية أو خاصة زاوية في كل زاوية، ويترك عمله بالساعات حتى يركض لأداء الصلاة على وقتها يتوضأ ليصلي. والغرض من الوضوء نظافة وليس مجرد طقس يمارس دون تفكير. فكيف تقبل هذه الملايين المؤمنة المتطهرة بأن تلقي قمامتها حولها وفوقها وتحتها أينما ذهبت.

وقد ذهبت بعض الآراء لتحمّل الدولة المسئولية كاملة. فالشوارع خالية من سلات القمامة (التي تتم سرقتها أولًا بأول). وهذه حجة البليد الذي استعذب القمامة وتعايش معها بكل الحب والود. فالاحتفاظ ببقايا سجائرك وأكياس الحلوى الفارغة ولا مؤاخذة بصقتك واستنشاقك وغيرهما في كيس بلاستيكي تلقيه في سلة المهملات الأقرب إليك ولو كانت تلك القابعة في بيتك (شرط ألا تتخلص منها عبر إلقائها في المنور).

ويردد البعض الآخر مستنكرًا: "يعني هي مشاكلنا خلصت حتى نقارن أنفسنا بمناور كوبنهاجن؟!" أغلب الظن أن مشاكلنا بالفعل خلصت، لكنه الخلاص الأخير!

إعلان