إعلان

موتى لا يرحلون!

موتى لا يرحلون!

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 20 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم. د. أحمد عمر:

بعض المبدعين حياتُهم قصيرة، كشِهابٍ مرَّ سريعًا في صحراء حياة البشرية والأوطان، ليُنير دروب الناس في لحظة خاطفة ثم يختفي أو بالأحرى يحترق تدريجيًّا حتى الانصهار التام. ولعل هذا الاحتراق الداخلي، هو عِلّة حياتهم القصيرة، وانتقالهم السريع من فضاء حياتنا إلى أرض الكواكب حيث مملكة المبدعين الخالدين.

والراحلان عن حياتنا في سرعة البرق، شاعرُ القِصّة القصيرة، الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله، صاحب "الطوق والأسورة" و"الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة". والشاعر الجنوبي الراحل أمل دنقل صاحب "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، هُما أفضل تعبير عن ظاهرة الرحيل السريع للمبدع، مع عظيم تأثيره في دنيا الأدب والشعر وحياة الناس، على نحو يكاد نقول معه أنهم صنعوا بحياتهم القصيرة أسطورة وحكاية سوف تُروَى لزمنٍ طويل.

وأظنّ أنّ من أهمّ أسباب صُنْع أسطورة يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل، وحضورهما المتجدد إلى اليوم، كسيرةٍ ونصٍّ في ذائقة وقلوب عشاق الأدب والشعر، هو رحيلهما المبكّر مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهما في قمة توهجهما الإبداعي، وعند بداية سن الأربعين.

ودائما ما أطرح علي نفسي هذا السؤال: ماذا لو امتد بهما العمر إلى الآن، ليُصبحا اليوم فوق سن السبعين، ما الذي كان سيفعله بهما الزمان، وهزيمة الأحلام، وأعباء الحياة والأسرة والأبناء؟

هل كانت لتخفّ حدّة وجموح يحيي الطاهر عبدالله، ورغبته في التحرر من كل أشكال القيود، بوصفه مبدعًا وفنانًا، ويقبل في النهاية بوظيفة في وزارة الثقافة، لتنضب موهبته، ويكف عن كتابة قصصه الرائعة من سنين؟.

وهل كان يمكن لأمل دنقل أن يتحرر من التزامه الشعري والطبقي، وينتهي إلى عدم جدوى المقاومة بالكلمة، ويتفرغ في خريف حياته بدافع طلب الرزق، وطلب الحياة المرفهة لكتابة أغاني المسلسلات والأوبريتات الوطنية الرسمية.

ربما حدث ذلك، وانتهيا إلى ما انتهى إليه الكثير من أبناء جيلهما.

وربما ظلّا أوفياءً لمبادئهما، واختياراتهما في الحياة، وأحلام شبابهما، وهذا الخيار هو الأرجح عندي من واقع إدراكي لخصائصهما الروحية والشخصية. وعندئذ كنّا سنجد يحيى الطاهر عبد الله بيننا اليوم، يكتب بصدقه المعهود باقي حقائقه القديمة الصالحة لإثارة الدهشة، ويُجسّد بحساسيته الإبداعية الفائقة، دراما حياة المصريين اليوم، ويُخاطب الكادحين وملحَ أرض هذه البلاد بمقولته الخالدة: "ارفع فأسك المصرية، وبيديك القادرتين هاتين، اضرب واجرح الأرض كما لو كنت تقتل حيّة. مزّقْ جسدَ الصخرةِ، وارفع حاجز الموت عن الشجرة التي تمنحك الظل والثمرة".

أما أمل دنقل، فلو عاش بيننا إلى اليوم، فكان سوف يتوهج ويتألق مع ثورة 25 يناير، وثورة 30 يونيو، ولكان استعداد أجواء قصيدته (الكعكة الحجرية) وحمد الله أن العمر قد امتد به ليعيش تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الوطن.

وبعدها ونتيجة لتخبط مسار الثورة والثوار، وفشل ثورتي يناير ويونيو في تحقيق حلم المصريين في الإصلاح والتغيير الكامل، كان سيتأرجح بين اليأس والأمل، وفي حالة اليأس يقول من جديد: "لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/ قيصر جديد/ وخلف كل ثائر يموت/ أحزان بلا جدوى/ ودمعة سُدى".

لكنه سرعان ما يستعيد الأمل، ويعود ليبشر بجدوى الحلم والمقاومة، فيقول: " آه ..ما أقسى الجدار/ عندما ينهض في وجه الشروق/ ربما ننفق كل العمر/ كي ننقب ثغرة/ ليمر الضوء للأجيال مرة/ ربما لو لم يكن هذا الجدار/ ما عرفنا قيمة الضوء الطليق".

في النهاية، هذه أسئلة وإجابات افتراضية، نابعة من قراءة تحولات بعض المثقفين والكتاب في العقود الأخيرة، بدافع الهزيمة النفسيّة، وموت الأحلام الكبرى، والانغماس في مشاغل وأعباء الحياة وطلب الرزق، واحتياجات الأبناء؛ ولهذا نقول: رحم الله يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، فقد رحلا صغارًا، وهما أوفياء لمبادئهما واختياراتهما في الحياة، وبعد أن توهّجَا إبداعيًّا وتركا لنا نصوصًا، كتبتْ لهما الخلود، وجعلتهما موتى لا يرحلون.

إعلان