إعلان

عودة الـ"كومون سنس"

عودة الـ"كومون سنس"

أمينة خيري
08:00 م الإثنين 14 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الكشف المجهري الدقيق والتحليل المعملي العميق أثبتا أننا نعاني نقصًا شديدًا في منابع الـ"كومون سنس". وهو الـ"سنس" الذي لا يمت بصلة مباشرة لمعدلات الفقر، أو يتناسب طرديًّا وقياسات القهر، أو حتى يتواءم عاطفيًّا وانهيار العلم. وعكس ما يروج البعض من أن مظاهر الفوضى العارمة وظواهر قلة الذوق الضاربة وثيقتا الصلة بالعوز المادي وشعور الناس بالقهر ورزوحهم تحت وطأة الظلم، فإن ما نشهده من تحول شوارعنا وعلاقاتنا ببعضنا البعض إلى ساحة اقتتال واحتقان، إنما سببه مجافتنا لـ"الكومون سنس".

وبحسب قاموس "المعاني"، فإن عبارة "كومون سنس" بالإنجليزية تعني "الفطرة السليمة" أو "حسن التمييز" أو"الإدراك السليم" أو "القدرة على التمييز". وجميع ما سبق هو ما يفرق بين الأمم المتحضرة وتلك الرافضة أو الكارهة أو المجافية للتحضر. فأن تصطدم بآخر في الطريق وترفض أن تقول له "آسف"، أو يقدم لك أحدهم خدمة ولا تتكبد عناء كلمة "شكرًا"، أو توقف سيارتك في مكان سيارتين، أو تطفئ سيجارتك في قفا جارك في الطابق الأسفل، أو تقود سيارتك عكس الاتجاه لأن الـ"يو تيرن" على مرمى حجرين وليس حجرًا واحدًا، أو تقرر أن تستمتع إلى أغنيتك المفضلة أو تلاوتك القرآنية المحببة أو قدّاسك الإلهي المقرب بأعلى صوت غير عابئٍ بمن حولك، أو تعتبر منور العمارة مقلبًا للقمامة، أو الشارع مرتعًا لأهوائك الجنونية والقائمة طويلة جدًّا، فهذا عين غياب الـ"كومون سنس".

لأن الـ"كومون سنس" احتار في أمره العلماء وحار في تفسيره الفقهاء، فإن أحدًا لا يعلم تحديدًا هل الإنسان يولد به، أم يكتسبه، أم لعلم الوراثة دخل في تحديد وجوده من عدمه. لكن خبراء الأنثروبولوجيا "علم الأجناس البشرية" يرجحون أن تكون المسالة فطرية. وحيث إن علماء التاريخ ومن تبقى بيننا على قيد الحياة ممن شهدوا بلادنا في عصور ما قبل انتحار الـ"كومون سنس" – وهي العصور التي امتدت إلى منتصف سبعينيات القرن العشرين- يؤكدون أنه كان عندنا "كومون سنس"، فإن هذا يعني أن التنقيب عنه ومحاولة استعادته أو إحيائه من موته السريري قد تكون ممكنة.

إمكانية إحياء الـ"كومون سنس" تمر ببوابات عدة وتعتمد على عوامل مساعدة كثيرة، بعضها من صنع الإنسان والبعض الآخر توفيق من السماء. فبوابات القانون وتطبيقه، والتعليم ورفعته، والأخلاق وتهذيبها، والقدوة الطيبة وترجيحها، وفصل التدين المظهري عن الواقع الفعلي المعاش جميعها موصد بالضبة والمفتاح. فبين قانون غارق في غيبوبة، وتعليم قائم على أعمدة متحللة، وأخلاق تبخرت في هواء الفهلوة والبلطجة، وقدوات طيبة صارت قاصرة على ظاهرة الدعاة الجدد والسم المدسوس في العسل، أو لاعبي كرة القدم والملايين المغلفة في أرجل تحرز أهدافًا، أو مطربين وممثلين لأسباب لا يعلمها إلا الله تتبدد آمال عودة الـ"كومون سنس" أمام سطوة أخلاق الجليطة وقلة الذوق والعنف المعنوي.

معنويًّا، يمكن القول إن العيش في مصر منزوعة الـ"كومون سنس" يقلص العمر الافتراضي ويضرب في مقتل أي ملمح من ملامح الاستمتاع بالحياة. ولأن الإنسان يختلف عن الحيوان في طبيعة الأشياء التي تبهجه وتسعده، فإن مظاهر الرأفة والرحمة والذوق في التعامل المنعدمة جعلت حياتنا أشبه بحياة الغابات. القبح صار مقبولًا، وجفاء التعامل أصبح مبلوعًا، وقلة الذوق لم تعد تزعج كثيرين.

تخيّل معي شخصًا "كسر" عليك بسيارته ثم رفع يده اعتذارًا، ألا ينزل هذا الاعتذار بردًا وسلامًا على قلبك؟! هل لاحظت لو كنت في أتوبيس عام وقلت للسائق "شكرًا" وأنت تترجل، أن ملامحه تنفرج؟ هل جربت من قبل أن تمر بعامل ينظف الشارع أو عاملة تمسح الطرقات وقلت له أو لها "الله ينور"؟ طيب هل فكرت مرتين قبل أن تسير عكس الاتجاه بسيارتك أنك تُعرّض نفسك والآخرين للخطر في مقابل أن تختصر بضعة أمتار؟ أسئلة كثيرة قد تساعدنا على إعادة إحياء الـ"سنس" الصريع.

عودة الـ"كومون سنس" صعبة لكنها ليست مستحيلة!

إعلان