إعلان

أشياءُ العالم...

أشياءُ العالم...

د. هشام عطية عبد المقصود
08:00 م الجمعة 11 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

وجدتها واقفة عند مدخل البيت تستند إلى الجدار وهي تحادث طفلا صغيرا، ثم تمضي إلى الداخل، تذكرتها فورا، بالتأكيد هي أستاذة سعاد، جارتنا القديمة ومدرسة العلوم في مدرستي الابتدائية، أشياء جدت على مظهرها ومشيتها، حتى قامتها صارت أقصر، أو هذا ما يبدو لي الآن، انحناءة الظهر واضحة، اقتربت منها حتى صرت إلى جوارها، تأملتها ثانية، هو ذات الوجه الذي اعتاد الابتسام كما تستدعيه ذاكرتي، لا زال محتفظا ببشاشة لم تغادره، زجاج النظارة زادت مساحته كثيرا حتى غطى كامل العينين وبعض ما حولهما.

قمت بتحيتها فمدت يدها وسلمت علي في اللحظة التي أقول فيها: "عارفانى حضرتك" نظرت نحوي وردت مسرعة: طبعا، لم أكن متأكدا من اليقين الظاهر لإجابتها، أعدت تذكيرها بنفسي، ثم واصلت هي التحرك ببطء ويدها ممتدة نحوي معلقة في الهواء كأنما تريد أن تمسك بيدي لأصل بها إلى حيث الكرسي الموضوع في مدخل الشقة الأرضية.

ظهرت امرأة نحيفة، هناك في نهاية الصالة الممتدة، كانت تنظر نحونا وتنتظر انتهاء حديثنا، ثم سعت تخطو في اتجاهنا، فأشارت لها أستاذة سعاد بأن لا ضرورة، ودعتني إلى الدخول، حاولت الاعتذار ثم حين ألحت، وافقت، صاحبتها نمشي على مهل، أعطت حقيبة اليد التي بدت كبيرة إلى المرأة، أخذتُ كرسيا موضوعا إلى جوار الحائط وجلست أمامها، وحين أصبحت في مواجهتها تماما، بانت كل السنوات الفائتة على ملامحها، بروز العروق في ظاهر كف اليد، ثم لون واضح محدد أخذ كامل مساحة أعلى الجفنين، فبان غريبا ولا ينتمي إلى ذات الوجه.

طلبت من المرأة الواقفة أن تصنع لها فنجان قهوة وأكدت "مظبوطة"، واعتذرتُ بعدم رغبتي في تناول شيء الآن، وأضفت مواجها تكرار طلبها "طيب خليها بعد شوية"، راحت عيونها تحدق بتركيز تبحث في داخل حقيبتها الموضوعة على منضدة في الجوار، الحقيبة تحتوي أشياء متناثرة عديدة، أخذت تستخرجها وتعيدها حتى عثرت على ورقة صغيرة، نظرت نحوي وقالت: "أخبار الأهل إيه"، ومضيفة: "معلش أصل بقالي كتير غايبة"، تحدثتُ في إيجاز كلاما عاما مطمئنا، وسألتها عن أحوالها وصحتها، قالت: "الحمد لله ماشية"، واستمرت هي في سد فجوات ما حدث خلال السنوات الماضية التي غابت فيها بأسئلة واستفسارات، وهي تجتهد في محاولة تذكر بعض أسماء الشخصيات التي تريد السؤال عنها.

كان غيابها طويلا حتى بدت الآن مثل ذكرى مشوشة في المكان أو صورة قديمة منسية على الجدار حتى مالت قليلا بفعا تآكل حامل الحائط، "ممكن أشرب" قالت تسألني وهي تشير، مددتُ يدي بزجاجة الماء الموضوعة قريبا مني، "تفضلي"، شكرتني مبتسمة.

أنظر نحوها وأفكر لا زالت حاضرة بعض تفاصيل الأناقة القديمة التي عرفناها بها أطفالا، تصميم الخاتم الكبير، إطار النظارة، شكل حقيبة اليد، والحذاء الذي يعلوه ما يشبه زهرة صغيرة ذهبية اللون، أعادني حديثها طفلا إلى أحداث أوشكت أن أنساها، حين كنت أراها وزوجها كل صباح في البلكونة الصغيرة يحتسيان القهوة، ثم حين يأتيان معا إلى منزل أسرتي ويبدأ الحديث الذي نجلس على أطرافه مستمعين ومن دون أن نتدخل، فقط، ننصت ونبتسم حين تتوجه عيونهم بغتة نحونا، نستمع لقصص السفر للبلاد البعيدة وحكايات الناس الذين يقابلونهما هناك، كان ذلك يشبه أول شاشة عرض سينمائي للحياة كما تجري في الخارج، حكايات عن الدنيا التي هي بعيدة عن شوارعنا وعن حينا وعن حياتنا أيضا.

كانت السيدة سعاد تقدم لنا الحلوى الشيكولاتة وتأتي أحيانا تحكي أو تقرأ معنا قصصا مصورة جلبتها لنا، كان زوجها رجلا قليل الكلام وكنا نعرف من حديث الجيران أنه يغار عليها كثيرا ولا يفارقها، ومع مرور الوقت كنا نسمعهم أيضا يقولون إن "أستاذة سعاد" وزوجها صارا يشبهان بعضهما تماما.

سنوات مضت وسافرت هي بعيدا حين غاب زوجها، ثم هي الآن تعود وتتحدث شاكية عن تصرف بعض أقاربها، وتختتم جملة الشكوى بالحمد لله، سافرت هناك، في بلاد استقر فيها بعض من أفراد عائلتها الذين هاجروا، وعادت منذ أسبوعين، وقررت أن تزور "حبايبها" كما تصف من تتذكرهم من الجيران، لم تعد سعاد تحكي قصصا عرفناها صغارا، صارت تقول أشياء كثيرة متفرقة وتواصل الكلام ولا أقاطعها، وحين تعيد فتح حقيبتها أرى صورة زوجها في إطار زجاجي صغير محفوظ بعناية، وحين تلمحني أنظر إلى صورته، تقول: "حاجات كتير غابت"، أومأتُ صامتا لا أعرف بماذا أعلق.

تذكرتُ آخر مرة رأيتها فيها قبل أن تسافر بعيدا، كان الرجال يحملون نعش زوجها ويمضون والبكاء يملأ المكان، وعندما هبطوا به آخر درجات السلم، كنت أقف في الأعلى أتابع ما يحدث، سمعتها تقول بصوت ضعيف وكأنها تتحدث إليه وحده "مع السلامة يا حبيبي" .. باغتتني الجملة الآن حين تذكرتها، نظرت نحو وجهها، وأمسكت يدها برفق، وظللنا نحكي كثيرا.

إعلان