إعلان

غصن الأمل .. في محبة صوت "الست"

غصن الأمل .. في محبة صوت "الست"

د. هشام عطية عبد المقصود
08:55 م الجمعة 07 يوليه 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عند تتبع حلو الكلمات وأعذبها في غناء السيدة أم كلثوم سيظهر أحمد رامي في مكانة فريدة، منحها إبداعه الجم ويقين "الست" بأنه صاحب مقام الكلمات الرفيع، وسيكون ما يذكر على هامش ذلك من محبته لها من قبيل رعاية الانتشار، يظهر في حكايات المتونسين بصوت "الست" وهم ينصتون بشغف عبر نقل إذاعي في الخميس الأول من كل شهر، ويكون رامي حاضرا سواء ككاتب لأغنياتها أو متدخلا بتعديل متفق عليه معها بكلمة هنا أو هناك أو انتقاء لأبيات بعينها من قصائد فصيحة تغنيها، وسيكون جالسا في كل حفلات أم كلثوم، أمامها مباشرة وفى مقعده الدائم، والذي يحمل الرقم ثمانية.

ظلت أم كلثوم وأحمد رامي أكثر إخلاصا لفنهما من كل الحكايات الدائرة عن حب صامت يكنه رامي لها، لتكبر كل تلك المقولات التي ربما أراد لها رامي أن تنمو كأفرع في شجرة تمتد جذورها وتنمو وارفة ظليلة اسمها شعر وكلمات رامي، يمد في جذورها المغرمون وهم يستحضرون بعضاً من مشاهد الروايات الرومانتيكية من أوائل القرن الماضي تلك التي تحدث "تحت ظلال الزيزفون".

سيبحث من يتجاوزون كون الأمر تحديدا عبقرية أم كلثوم عن هوامش تملأ مساحات النميمة المحببة لجمهور يريد أن يعرف ما وراء الأشياء، أليست تخبرهم كتب التراث تغافلا وقفزا أنه لولا عبلة ما جادت قريحة عنترة بمعلقته "وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي"، ولا كتب قيس بن الملوح قصائده "أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى"، ومن غير بثينة ما قال جميل بن معمر "لكل كـلامٍ يا بثيـن جوابُ"، يبحثون عن تفسير خارج مخيلة الشاعر وعظمة حضور القصيدة واكتمال زهو مفرداتها غاية حين يقول رامي: "كان فجراً باسماً في مُقْلَتَيا يوم أشْرَقْتَ من الغَيْبِ عَليا".

هكذا لن يدلفوا إلى عالم رامي الذي منحه صوت أم كلثوم وحدها انتشارا وذيوعا وبراحاً في العالمين، أحب رامي قصيدته وأشعاره وأحبها الكون معه في صوت "الست"، وستبقى حين تذكر الإذاعات ثم محطات التليفزيون بعد ذلك وتكتب كل الأسطوانات التي سيستمع لها الناس من عرب ومن عجم وعلى مدار عقود تلت أنها من أشعار أحمد رامي، سينتبه مبكراً لذلك مدركا أن شجرة رواية كلماته لن تثمر هكذا طرحا خاصا من غير صوت "الست".

يستوي هنا فكرة أنها كانت ملهمة أم غير ذلك في عرف قصيدة رامي، فقد أدرك بحس مدرك أنه في حضرتها يصنع لذاته تاريخا فذا في الغناء العربي، ومعها ينمو اسمه ويبقى خارج مدارات الزمان، طالما ظل صوت "الست" في الحياة ولا يزال حاضرا بهجة وونسا.

هذا الفهم سيحفز أحمد شوقى بفعل الأمر ذاته مع عبد الوهاب، حين يؤلف عملاق الفصحى وأمير شعراء البرية كلمات بالعامية ليغنيها عبد الوهاب، مستحضراً مجد البقاء عبر صوت عبد الوهاب، ولن تسعفه قريحة العامية بما يريد، وستظل منتقيات قصائده الفصحى التي غناها عبد الوهاب باقية وحدها تمضى مع الزمن.

استطاعت أم كلثوم أن تصنع مع أحمد رامي والسنباطي أكثر دوائر الغناء اكتمالا لديها، والتي لم تتحقق بقدر الإمتاع والتفرد والاستمرارية والبهجة ذاتها مع غيرهما، وبعد أن تكتمل شخصياتهم الفنية وتطل علينا معهما في العمل الفذ الطويل المبدع "فاكر لما كنت جنبي" ، سيكون ذلك تحولاً مهما في كتابة رامي وألحان السنباطي نضجاً واكتمال صوت "الست" بكل ما نعرفه عنها بعد ذلك وهى تشدو"زي الغصون لو بعدت يوم جه النسيم قرب بينها".

سيجتمع رامي والسنباطي على صوتها ويمضون معا كبهجة الأعياد تطل على الجمهور، تصنع السعادة المتاحة "أقوله أهلاً ويقول لي سهلاً "، وستنمو شجرة شعر رامي في مساحة تألق تأنس بها الأرواح صافية "ما بين نعيمي وأنس الروح ساعة رضاك".

سيكتب رامي ما أظنه أبهى جمل الغناء العربي ويلحنها السنباطي أيضا في أغنية "جددت حبك ليه" حيث ينتهي المقطع الأول هكذا: "خليه غافل عن اللي راح"، ثم حين تكرر "الست" الجملة منفصلة عن المقطع في فعل لحني مغامر من السنباطى "غافل عن اللي راح " وكأنها مستقلة تبياناً لفلسفة الحياة ومكابدتها.

سينتهي عهد رامي الغنائي تماما مع أم كلثوم بقصيدتين واحدة منهما تعد تحولا مهماً بالعودة إلى الفصحى بعد آخر قصيدة فصحى غنتها له عام 1954، ليكتب "أقبل الليل" وتغنيها "الست" في عام 1969 في مناجاة لكل ما أبعدته الحياة "يا بعيد الدار عن عيني ومن قلبي قريبَ"، ثم يكون آخر ما بينهما أغنية "يا مسهرنى"، سيكون ذلك فى تقديري الأقل عذوبة بعد مرحلة اكتمال فني استمرت منذ الأربعينات وما بعدها، ولن يكون السنباطى هذه المرة حاضرا، سيكتب رامي فيها معاني أكثر مباشرة مما كتب من قبل، وأيضا أكثر حزنا، ستختفي فيها نفحات الأمل الخفية الهامسة في أغاني رامي سيقول:" الصبر قليل والعمر أيامه بتجري" وستغنى أم كلثوم بعد ذلك أغنيتين لم يكتبهما رامي، لترحل صورة "الست"، وبعدها بسنوات يرحل رامي، سيضيف المغرمون تفاصيل جديدة ومستعادة عن حب رامي للست، وستقدم الحياة رواية أخرى أكثر واقعية، حين يقول رامي لزوجته من بعد هجرة واغتراب الأبناء ووحدته: كأن كان عندي "غية حمام" وطار الحمام منها.

إعلان