إعلان

الشيء الرخو في الجمجمة

الشيء الرخو في الجمجمة

أمينة خيري
08:14 م الإثنين 31 يوليه 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الأسبوع الماضي راح شقيق صديقتي على الطريق. أريقت دماؤه وخمسة آخرون على طريق العلمين. قضاء وقدر؟ نعم! فكل كبيرة وصغيرة في حياتنا قضاء وقدر. لكن هذا الشيء الرخو البيضاوي المثبت في الجمجمة له أيضاً دور مركزي في تقرير مصائرنا.

مصير ملايين المصريين متروك في أيدي مجموعة من السفهاء معدومي الضمائر ممن يتخذون من الشوارع والميادين والطرق السريعة مرتعاً لهم. سائق باص لا ير غضاضة في سرعة 120 كم في الساعة. نقل ومقطورات تعتبر نفسها في صراع البقاء فيه للأقوى مع السيارات الصغيرة. ميكروباصات عقيدتها البلطجة ومنهجها العشوائية ومنظومتها الفوضى الهدامة. مركبات لا أصل لها أو عنوان أو ترخيص تسيطر على الشارع معلنة سطوتها وفارضة هيمنتها وعلى المتضرر ضرب رأسه في أقرب حائط. تكاتك، تروسيكلات، سيارات "ثُمن" سريعة الانقلاب، حمير وبغال، كارو، دراجات نارية والقائمة مفتوحة لمن يرغب في الانضمام.

ولأن رقصة التانغو المميتة على الطريق تستوجب راقصين إثنين، فإن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق من اختار الطناش وآمن بالانسحاب ورفع راية "ماليش دعوة". دعوى مرفوعة ضد إدارة المرور تتهمها بالتسبب عامدة متعمدة في قتل آلاف الأبرياء على الطرق المصرية وإصابة أعداد أخرى مضاعفة بالإضافة إلى التلفيات والخسائر المادية والمعنوية الأخرى، بماذا يحكم فيها القضاء؟.

القضاء والقدر اللذان نحملهما ما لاطاقة لهما به بريئان من دماء تراق لأهل وأحباب. شقيق صديقتي اختار أن يسافر الساحل الشمالي بباص تابع لشركة اكتسبت سمعة طيبة بين الراغبين في سفر آدمي ومضمون رغم ارتفاع الأسعار. لكن ترنح السائق، واعتبار الباص دراجة هوائية تأخذ من الغرز والمقصات ما يعرض الركاب ومن حولهم لأخطار داهمة. وهل هناك أقسى أو أفظع من خطر الموت؟!

خطر الموت ليس حكراً على طريق أو شركة أو باصات بعينها. لكنه بات خطراً مهدداً الجميع على مدار الساعة. وطالما لا كاميرا تراقب، أو رادار يتابع، أو ضابط مرور يدقق، أو أمين شرطة يترفع عن الرشوة، فسيظل كل من في نفسه هوى لخرق قانون، أو ترجمة جهله بالقيادة إلى واقع، أو اعتبار نتيجة رعونته وسفهه قضاء وقدراً يحددون مواعيد إراقة دمائنا وفقدان أحبابنا.

أحباب الله المتروكة لهم مقاليد القيادة باتت لهم أدوار ريادية. من توك توك يقوده طفل دون العاشرة في شارع شبرا الرئيسي على مرمى حجر من ونش إدارة المرور الهمام، إلى سيارة مرسيدس قرر "بابي" أن يتركها ل"حزومة" إبن ال12 عاماً يتدرب فيها على القيادة في مدينة الشروق، إلى سباقات بالدراجات النارية غير المرخصة لصبية في شوارع مصر الجديدة الرئيسية يضيف الصغار إلى حياتنا بعداً جديداً من الإثارة والتشويق.

الشوق إلى شوارع آمنة بات ضرباً من الخيال. خيالي المريض صور لي أن مطالبتي للرجل الستيني ذي اللحية المهيبة و"زبيبة" الصلاة الكبيرة وملصقات "صلي على النبي" و"الله أكبر" و"بسم الله ما شاء الله" والقائد سيارته بأقصى سرعة عكس الاتجاه في أحد شوارع مدينة الشروق بالتزام القانون تفكير صائب. لكن الرجل صوبني. "مالكيش دعوة اتكلي على الله"!

وعلى الله يتوكل بعضنا ويتواكل أغلبنا. ومن غُلب إلى غُلب، ومن عبث بالدولة - التي طالبنا الرئيس السيسي بأن تكون لدينا فوبيا خوفاً من سقوطها – إلى عبق الماضي الجميل وقت اعترض المصريون على مخالفات حزام وخوذة الأمان والحديث في الهواتف المحمولة أثناء القيادة. وقتها لم نكن نعلم أن القادم أسوأ.

والإساءة لذكائنا غير مقبولة. فلا قوانين المجرة ستصلح من شوارعنا، ولا اقتراح مليون نظام لتطبيق المخالفات سيقلص نزيف الأسفلت. فأولي الأمر النائمون الغائبون المقاومون للقيام بعملهم هم أنفسهم الموكلة إليهم تطبيق القوانين الجديدة وتحصيل المخالفات الوليدة. هذا الشئ الرخو المثبت في الجمجمة ينبئنا بفشل المنظومة المرورية من الألف إلى الياء

إعلان