إعلان

الحفر في وعي الناس

الحفر في وعي الناس

د. أحمد عبدالعال عمر
08:00 م الأحد 30 يوليو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. أحمد عمر

" إن وظيفة المثقف في تلك المرحلة من تاريخ بلادنا، هي التغيير الهادئ العميق حفرًا في وعي الناس ". تلك عبارة تُجسد دور المثقف الملتزم بقضايا ومشكلات مجتمعه، ومسؤولياته في حركة الإصلاح والتنمية، سمعتها في مرحلة الدراسة الجامعية، مع بداية تسعينات القرن الماضي، عبر إذاعة BBC على لسان الشاعر والكاتب السوري محي الدين اللاذقاني. ومن ذلك التاريخ حُفرت تلك العبارة بمضامينها ودلالاتها في ذاكرتي، وحددت اختياراتي وقناعاتي حول دور المثقف ورسالته في مجتمعه. 

ولكن بعد ذلك بسنوات- وتلك مفارقة كبرى - صار محي الدين اللاذقاني، أحد قيادات الثورة السورية، بعد قيامها في مارس ٢٠١١، متخلياً عن قناعته السابقة حول استراتيجية التغيير الهادئ العميق حفراً في وعي الناس، ومتبنيا للخيار الثوري الجذري لتغيير المجتمع ونظام الحكم. 

وهو الخيار الذي تحول مع تطور أحداث الثورة السورية، وتداخل قوى خارجية إقليمية ودولية إلى ثورة مسلحة ومواجهة مفتوحة، أثبت تطور أحداثها ومجرياتها أن المعارضة المسلحة المدعومة بقوة من الخارج، لا تستطيع رغم كل الدعم الإقليمي والدولي الذي حصلت عليه أن تقلب موازين القوى على الأرض لصالحها، لتستمر الحرب في سوريا بين الأخوة الأعداء، صانعة مأساة إنسانية وسياسية، دفعت بعض المراقبين للقول بحتمية الحل السياسي للصراع السوري، وعبثية الحل العسكري، وإدانة انتهازية ولا وطنية ولا إنسانية كل أطراف الصراع.

وفي نوفمبر 2015، قابلت محي الدين اللاذقاني في مؤتمر المثقفين العرب بمكتبة الإسكندرية، وسألته: كيف لمن كان يرى إن مهمة المثقف العربي الوحيدة في هذه المرحلة التاريخية، هي السعي للتغيير الهادئ العميق حفراً في وعي الناس، أن يتبنى الخيار الثوري من أجل التغيير الجذري للنظام، وأن يصبح من زعماء الثورة التي تحولت لمواجهات دموية مسلحة، انتهت بسوريا إلى كل هذا التدمير والخراب؟

فقال لي: " نعم كانت تلك قناعتي في الماضي، ولكني فوجئت بوعي الجماهير المتقدم، وثورتها غير المتوقعة، بعد أن سئمت ما كانت تعيش فيه من ظلم وفساد، وكان لابد لي من الارتقاء لمستوى وعي وطموح الجماهير، وتبني خيارها الثوري في التغيير. وليس من العيب أن أعترف أن الجماهير في ثورات الربيع العربي كانت أكثر تقدمية من المثقفين". 

واليوم استعيد هذا الحوار، وأنا أتأمل في الوضع السوري واليمني والليبي، والأزمة الاقتصادية الطاحنة في مصر، وإفلاس الخزانة التونسية، وعجز الدولة عن دفع المرتبات وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، فأشعر بالأسف، وأدرك كم يخطئ المثقف الوطني في حق نفسه ودوره، عندما يتبع الجماهير دون وعي، عوضاً عن أن يقوم هو بتنمية وعيها وتوجيهها.

ثم انتهي بعد ذلك إلى قناعة راسخة، ألا وهي: إن ثورات الربيع العربي بما لها وما عليها، وبمصيرها المأساوي الذي انتهت إليه في أغلب دولها، قد خلقت تحدياً وجودياً للمثقف العربي، وفرصة تاريخية لاستعادة فاعليته، بعد قيامه بالنقد الذاتي المطلوب، وإعادة تعريف مصطلح المثقف، وتحديد دوره. 

وأن هذا الدور يجب ألا يخرج بأي حال عن إطار السعي لتحقيق التغيير الهادئ العميق حفراً في وعي الناس، منطلقاً في مسعاه هذا من قناعة مؤداها: أن التغيير الثوري الجذري للوضع القائم، بالدعوة لخروج الجماهيير مرة أخرى إلى الشارع هو حماقة فكرية وسياسية، تفتقد للوعي التاريخي، والقدرة على الاستفادة من أحداث السبع سنوات العجاف الأخيرة في تاريخنا، وأن الهدف الذي يجب أن يسعى إليه في بلادنا اليوم رجال الفكر والثقافة والسياسة، هو ترميم ما تصدع في جسد الدولة الوطنية ومؤسساتها، وتحويلها من دولة رخوة أو فاشلة إلى دول قوية وعادلة، تديرها قيادة وطنية عقلانية، تعمل على استكمال مشروع حداثتها المُعطل، وتحقق آمال أبناء الوطن في الحرية، والعدالة، والحياة الكريمة؛ فالدولة الوطنية رغم كل المشاكل التي تواجهها، وأوجه القصور فيها، هي حصننا الوحيد الباقي للحفاظ على وجودنا وثقافتنا وهويتنا.

إعلان