إعلان

شط اسكندرية (٢): لا تعتذر عما لم تفعل

شط اسكندرية (٢): لا تعتذر عما لم تفعل

ياسر الزيات
10:18 م الأربعاء 26 يوليو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تعرف أنك على مشارف الإسكندرية عندما تشم رائحة اليود. وكلما شممت رائحة اليود في مدينة ساحلية في أي مكان في العالم، سميتها الإسكندرية. لا نعرف، نحن الصعايدة، تلك الرائحة، لأن النيل الذي يمر بنا لا يحمل لنا إلا ما تبقى من رائحة الطمي. والطريق من الصعيد إلى الإسكندرية بعيد، أبعد من أحلام يصعب نيلها. وفي عام ١٩٨٤، عندما قررت العمل في مطعم في الإجازة الصيفية، كانت الإسكندرية أبعد كثيرا مما يمكن لأحد أن يتخيل. في الأحوال العادية، كان القطار يقطع المسافة من طما في محافظة سوهاج إلى محطة مصر في الإسكندرية، في ١٢ ساعة، لكنني لم أعرف أحدا شهد حدوث ذلك. وقتها كان خط السكك الحديدية مفردا بين أسوان والقاهرة، وكان على القطار أن ينتظر في إحدى المحطات إلى أن يمر القطار القادم من الجهة المقابلة، وكان الانتظار يشبه الرتب العسكرية، فقطار البضاعة ينتظر القطار القشاش، والقشاش ينتظر السريع، والسريع ينتظر المجري، وهكذا. لكن الرحلة الواقعية من طما إلى الإسكندرية، في قطار الدرجة الثالثة، الذي يتوقف سائقه أحيانا للسلام على المارة، كانت تستغرق ما بين ١٨ و٢٠ ساعة، أو حسب التساهيل. وفي تلك الساعات، يتحول القطار إلى محكى، وتنمو صداقات، وقد تنمو علاقات حب بالنظرات أو بالهمسات، تنتهي عند محطة الوصول، أو تذهب محطات أبعد، وصولا- أحيانا- إلى محطة الزواج.

استقبلتني سميحة على سلم الطابق الثاني من مطعم أباظة في المنشية بقبلتين على الخدين، وكان ذلك حدثا عظيما بالنسبة لشاب صعيدي لم يغادر مرحلة المراهقة. كنت أعرف أن سميحة تحب جميل، وجميل يحب هدى، وهدى تحب أمجد، وأمجد يحب هدى الأخرى، أما أنا فكنت مخلصا لحبيبة في الصعيد. الخلاصة أن هذه أول قبلة بريئة، تعلمت منها أن الصداقة بين الرجال والنساء ممكنة، بدون أن يكون وراءها أهداف عاطفية أو جنسية. تعلمت من حكايات وعلاقات الطاولة رقم ٦ أن الإنسان لا ينال دائما ما يحب أو من يحب، وأن النفس البشرية أكثر تعقيدا مما يمكن لأحد أن يتخيل. فتلك الدائرة العاطفية التي كان زملائي يدورون فيها هي تراجيديا حقيقة، كنت أنا مركزها الذي تصب فيه دموع الجميع. وكان المطعم منقسما إلي طابقين وطبقتين: طبقة الجرسونات الشباب الذين يجلسون على طاولة رقم ٦، يتبادلون الشكاوى العاطفية غالبا، أو يسخرون من الزبائن، وطبقة السفرجية الكبار، الذين كان أغلبهم نوبيين يتبادلون الذكريات حول البلد القديم الغارق خلف السد العالي.

عندما تعمل في مطعم أو مقهى، وكذلك سائقا لتاكسي، تقابل كل أنواع البشر في يوم واحد، وتتعرض لكل المواقف التي قد لا تتوقعها. في المطعم، تلتقي الزبون الذي يعاملك باعتبارك خادما، لأنه سيدفع لك البقشيش بعد أن يغسل يديه، وهو لا يعلم أنك تبادله الاحتقار باحتقار أشد. لكن تقابل أيضا أنواعا من البشر يؤثرون في سلوكك طوال حياتك. تفرض تلك المهنة عليك أن تكون مهذبا، لأن "الزبون دائما على حق". ولم يكن مفهومي للتهذيب دقيقا وقتها. كنت أكثر من ترديد كلمة "آسف" باعتبارها تعبيرا عن التهذيب، إلى أن نادتني زبونة أتذكر ملامحها إلى الآن، وفاجأتني بقولها: "لماذا تكثر من ترديد عبارات الأسف؟ لا تعتذر عن أشياء لم تفعلها أبدا". كانت تحدثني بحدة صدمتني، وبحزم كأم تحاول أن تربي ابنها. ابتسمت لي برقة، وهي تغادر المطعم، فقررت أن أحتفظ بابتسامتها إلى الأبد، وتمنيت كلما زرت الإسكندرية لو أنني أقابلها مصادفة، لأعبر لها عن شكري وامتناني لهذا الدرس العظيم، الذي علمني ألا أقول ما لا أعني. تقابل أشخاصا في حياتك يعنون لك الكثير، ويتركون أثرا يصعب محوه في شخصيتك. لا يهم الوقت الذي تعرفه فيهم، ولا المكان الذي التقيتهم فيه، لأن زمنهم ومكانهم ينموان داخلك، ولأنهم يتحولون إلى جزء من تكوين شخصيتك، ومن سلوكك وثقافتك. فشكرا دائما لهؤلاء.

إعلان