إعلان

معركة عودة الوعى

معركة عودة الوعى

محمد شعير
08:50 م الخميس 20 يوليو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

محمد شعير

تبدو إعادة قراءة الأعمال الكلاسيكية بين الحين والآخر عملا ضروريا، ممتعا وكاشفا أيضا. فى إعادة القراءة نرصد اختلافا فى تلقى العمل واستقباله عن المرات السابقة، قد تتبدى أشياء لم نكن نلحظها، نختبر تغير ذائقتنا الشخصية في التلقي الذى يرتبط دائما بالحالة النفسية للقارئ، والحالة السياسية التي تحاصرنا، ومدى تطور وعيه عبر القراءة المختلفة، وربما أيضا بسنوات العمر التى تنضجها التجارب. 

وفى مناسبة مرور 65 عاما على ثورة يوليو، أعدت قراءة كتاب توفيق الحكيم "عودة الوعى"، وكذلك وثائق المعركة التى فجرها نشر الكتاب عام 1972، وشارك فيها كتاب وسياسيين أبرزهم محمد حسنين هيكل ومحمد عودة، وعبد الستار الطويلة، لطفى الخولى، محمد سيد أحمد، خالد محيى الدين، لطيفة الزيات.. وآخرين ممن ناقشوا الكتاب وأوسعوا مؤلفه هجوما أو دفاعاَ!

فى القراءة الأولى للكتاب، منذ سنوات طويلة، بدا لى الحكيم - رغم قيمته الأدبية- مجرد راقص سياسي، كان من أكبر المستفيدين من عبدالناصر ونظامه السياسي، قريبا منه حتى اعتبره عبد الناصر بمثابة أحد الآباء الروحيين له، كتابه (عودة الروح) تنبأ فيها بظهور المخلص المعبود والبطل المنتظر الذي سيحيي الأمة من رقادها، ومن هنا كان الكتاب ملهما لعبد الناصر الذى قرأ الكتاب أكثر من مرة، بل تاثر به عندما كتب روايته غير المكتملة "فى سبيل الحرية" التى اختار أن يحمل بطلها اسم " محسن" وهو الاسم نفسه الذى اختاره الحكيم لبطل "عودة الروح".تتناول الرواية أحداث ثورة 19..التى لم تحقق حسب الحكيم كل ما كنت تحلم به مصر.. ولذا لابد من مخلص:" امة اتت في فجر الإنسانية بمعجزة الاهرام لن تعجز عن الاتيان بمعجزة اخري او معجزات!.. امة يزعمون انها ميتة منذ قرون, ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء بين رمال الجيزة!.. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد"

وقد أهدى عبد الناصر كتابه "فلسفة الثورة": " إلى باعث الأدب الأستاذ توفيق الحكيم، مطالبًا بعودة الروح مرة أخرى بعد الثورة"

علاقة القرب مع راس السلطة حمت الحكيم مرارا من غضب ضباط آخرين – غير عبد الناصر- رأوا فيما يكتبه – أحيانا- من مقالات تجاوزا وانفلاتا، وكانوا لا يطيقون النقد. لذا احتفظ الحكيم بمناصبه، وبمكانته حتى أنه بدأ كانه محمية ناصرية.. عندما شرعت الثورة فى تشكيل لجان التطهير لإقصاء مَن تراهم غير صالحين لوظائفهم لأسباب مختلفة، تضمنت الكشوف اسم توفيق الحكيم الذى كان رئيسًا لدار الكتب، وهنا حذف عبد الناصر اسم الحكيم من الكشوف، واستبقاه فى وظيفته، ومنحه عام 1958 قلادة الجمهورية ردا على حملة صحفية ضد الحكيم اتهمته بسرقة كتابه "حمار الحكيم" من الكاتب الإسباني " خوان رامون خيمينيز".

عندما رحل عبد الناصر رثاه الحكيم: "اغفر لى يا سيدى الرئيس فيداى ترتعشان وأنا أكتب عنك القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك"، وفى حفل تأبينه، سقط الحكيم مغشيا عليه ولم يستطيع أن يستكمل كلمته من شده الحزن، لكنه طالب بالاكتتاب من أجل تشييد تمثال لجمال عبدالناصر يوضع فى ميدان التحرير.

لكل هذه الأسباب كان مدهشا أن الرصاصة الأشد تأثيرا التى أطلقت على يوليو وعبد الناصر ، كان الحكيم صاحبها عندما أصدر كتابه " عودة الوعى"..معتبرا أن سنوات الثورة كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقدا الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم المعبود. يكتب: "سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا فيه الثورة مجرد أجهزة استقبال".

بالتأكيد كان ليوليو مثالب كثيرة، لكن لم يكن الحكيم صامتا تجاه تلك المثالب، بل كان مباركا وممجدا أيضا طوال السنوات التى حكم فيها عبد الناصر.. لماذا الصمت؟ كان السؤال الأكثر إلحاحا من كثيرين.

كتب محمد حسنين هيكل معتبرا أن كل من هاجم عبد الناصر بعد رحيله "كانوا أشباحا خائفة، أشباحا ضعيفة. من يملك الشجاعة لا ينتظر الموت ليمارس شجاعته"..وأضاف واصفا هؤلاء، وعلى رأسهم الحكيم:" هؤلاء، بالرجوع إلى مواقفهم جميعا، لم يكن هناك أسبق منهم إلى حرق البخور أمام عبدالناصر".. 

من جانبه أعتبر الحكيم أن هيكل رد بنفسه على نفسه:" هل توجد الأشباح الضعيفة إلا فى جو من الفزع والرعب؟ لماذا إذن لا توجد أشباح خائفة ضعيفة فى بلاد مثل فرنسا وإنجلترا وأمريكا والسويد وغيرها من البلدان التى لا يعيش أهلها فى الرعب والهلع من التعذيب والمعتقلات والقتل والنفخ فى البطون والاعتداء على أعراض الزوجات والبنات والأخوات مع تشويه الآراء المعارضة بتلطيخها بتهم التآمر والخيانات".. 

وفى حوار معه فى مجلة المصور عن أسباب صمته فى حياة عد الناصر وهجومه بعد الرحيل.. قال الحكيم:" كل من يوجه هذا السؤال يعلم علم اليقين السبب فى ذلك. وإذا فرضنا أن السكوت عن الجريمة كان ذنبا، فما قولهم فيمن أرتكب الجريمة؟ أنترك من أرتكب الجرائم ونحاسب من سكت عنها..حاسبوا الإثنين على الأقل". 

قال الحكيم أنه لم يصمت بل استخدم الوسائل التى كانت متاحة تحت يديه وقتها:" انتقدت خنق الحرية وإعطاء القانون إجازة، لذا رأيت من واجبى أن أكتب " السلطان الحائر" لأوضح وجوب احترام القانون والحرية والابتعاد عن استخدام السيف والعنف.. وجاءت هذا العبارة تحذيرا للحاكم: " إن السيف يفرضك، ولكنه يعرضك.. أما القانون فهو يحرجك، ولكنه يحميك". 

وكتب الحكيم فى رسالة إلى اليسار المصري محذرا:" إن خوف اليسار من استثمار الرجعية لنقد إنجازات عبد الناصر قد يؤدى إلى الوقوع فى موقف رجعى".. وهو الأمر الذى أيده فيه الكاتب عبد الستار الطويلة الذى كان أحد المدافعين عن الحكيم مؤيدا " خوفه": " من حق الحكيم أن يخاف، وهو لا يدعى أنه زعيم حزب أو عضو حزب أو حامل بندقية"..أشار الطويلة إلى القصة الشهيرة: بعد أن ألقي خروشوف خطابه التاريخي الذي كشف فيه أمام مؤتمر الحزب الشيوعي سنة 1956 عن انتهاك الحريات في عهد ستالين. بدأ أعضاء المؤتمر يقدمون اليه أسئلتهم مكتوبة ,وموقعا عليها بأسمائهم, وكان من بينها سؤالا يقول:-اذا كان هذا الانتهاك للديمقراطية قد حدث أيام ستالين...فأين كنت أنت...؟! وقرأ خرشوف السؤال ولاحظ أنه بلا توقيع فصاح: من صاحب السؤال ؟ولكن لم يرد أحد. وعندئذ ضحك خروشوف وقال: جوابي أنني كنت مثلك يا صاحب السؤال! ثم أضاف لا تنسوا أن الارهاب في عهد ستالين أدي الي اعدام ثلثي أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بتهمة الخيانة في سنة واحدة! 

قال الحكيم فى ختام رسالته لليسار مبررا كتابته لهذا الكتاب:" إن هذا التاريخ لا تزال مجهولة تفاصيله وحقائقه وخباياه ومستنداته. لذلك لابد من فتح ملف ثورة يوليو 1952".

الآن، مع القراءة الثانية الكتاب، هل يمكننا أن نستوعب خوف الحكيم، صمته، تردده.. استخدامه للمتاح أمامه من وسائل فنية.. هذا ما كان يملكه أمام نظام كان يمنع الهمس، وينشر الخوف والموت. الخوف يقتل الروح.. كما يقول المخرج راينر فاينر فاسبندر.

إعلان