إعلان

الطريق إلى دمشق (٥): لا تبحث عن الماغوط

الطريق إلى دمشق (٥): لا تبحث عن الماغوط

ياسر الزيات
09:04 م الأربعاء 28 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في كل خطوة مشيتها في سوريا، كان الشعر يتبعني. في دمشق القديمة، وفي الجبال الخضراء، وفي سوق الحميدية، والمسجد الأموي وركن الدين، وعلى قمة جبل قاسيون. كنا مساءً عندما اصطحبني صديقي إلى القمة، ومشينا في الظلام الخفيف إلى أن توقف، وقال لي: "أنظر". ونظرت، فارتعبت، وانتشيت، أنا ابن السهول، الذي لم ير جبلا إلا في نهايات الآفاق شرقا أو غربا في الصعيد، وفي الحكايات مشحونا بقصص العفاريت، أو قصص المطاريد وشخصياتهم الأسطورية. فجأة وجدتني على الحافة، فوق صخرة هيأ لي خيالي أنها ستسقط بي إلى الهاوية، هناك، حيث تبدو السيارات طابورا من النمل، وتبدو دمشق مجموعة من الأضواء المتناثرة، تعزف سيمفونية غريبة، ويرقص فيها الضوء رقصة التانجو مع الظلام. 

كيف لا يأتي من سوريا أجمل الشعراء؟

لا بد أن نقطة من هذه النقاط المضيئة البعيدة هي شرفة شلبية إبراهيم الفنانة التشكيلية المصرية، وزوجها نذير نبعة الفنان التشكيلي السوري. في هذه النقطة، سأجلس الليلة، حيث أعدا عشاء على شرفي، حضرته نخبة من أصدقائهما الفنانين والأدباء السوريين، أتذكر منهم الآن الفنان التشكيلي الكبير إلياس الزيات. قبل الجلسة، اصطحبني الراحل نذير إلى غرفته السحرية، حيث يرسم أعماله. كان كثير من لوحاته مغلفا، لكنه فض أغلفتها ليريني إياها، رغم حجمها الكبير، فأشفقت عليه من ذلك المجهود، لكن أنانيتي سولت لي أن أتركه يفعل ذلك، لأشاهد لوحاته قبل عرضها في معرض عام. 

على طاولة في تلك الشرفة، جلست مع نذير وضيوفي، وكانت شلبية تطل من وقت إلى آخر قائلة بصوت فلاحة منوفية لم تترك قريتها يوما: "يا دي النور، يا دي النور. ده احنا زارنا النبي". في سوق الحميدية وشوارع دمشق القديمة، دربت نفسي على عدم النظر إلى واجهات المحلات، لأن شلبية قد ترى أن شيئا ما ربما أعجبني، فتشتريه لي، مصرة على ألا أدفع ثمنه. تسبقك شلبية، رغم فارق السن، بخطوتين أو ثلاث، لتدلك على ما تحب لك أن تراه، وتشرح لك الأماكن والأشياء بعفوية ساحرة. وقد تشفق عليها من المشي الكثير، لكنك تدرك أنها مستمتعة بحضور ضيف "من رائحة الأحباب"، كما تقول، في مصر. 

أنت لن تمل من حديث شلبية وحكاياتها أبدا، كما أنك لن تمل من هدوء نذير وصمته الحكيم أبدا. على تلك الطاولة، التي جمعتنا، الطاولة نفسها التي تشاهد شلبية كل يوم، وهي تطعم الحمام الدمشقي، وتروي الياسمين، جلسنا وتحدثنا في كل شيء: في الشعر، والفلسفة، والسياسة بدون حذر، والفن التشكيلي، والطبخ، والسفر. تحدثت كثيرا، وكانت جلستي، ربما مصادفة، تطل على قاسيون الشامخ، في خلفية المقعد الذي كان يجلس عليه نذير، فكأنما شكلا معا تكوينا في تفصيلة في إحدى لوحاته، التي رأيتها قبل قليل. ولم يكن صمت نذير عاديا، فهو يحضنك بعينيه طوال الوقت، بمحبة وبعض الزهو. ومن وقت إلى آخر، بعد أن تكون قد تحدثت دقائق متواصلة، لتشرح فكرتك، يفاجئك بجملة قصيرة، يلخص فيها كل شيء بشكل يدعو إلى الدهشة من قدرته على التكثيف. قرأت شعرا، وتناقشنا في الشعر، وأتينا إلى سيرة شعراء نحبهم، وسألت عن شاعري السوري المفضل دائما محمد الماغوط، فأجابني نذير: "ليس بخير". قلت له إنني أبحث عن بيته، فقال: "لا تبحث عنه". طلبت منه أن أزوره، فقال لي: "ياسر، إذا كنت تحب الماغوط فعلا، يجب ألا تزوره، يجب ألا تراه على هذه الحال. احتفظ بصورتك عنه، بشعره، بروحه فيك". وبعد فترة من عودتي إلى مصر، قرأت خبر وفاة محمد الماغوط. وبعد سنوات، جاءت الحرب، ولم تعد إلى بيتها أبدا، وحملت الكثير ممن أحب، ومما أحب، إلى القبور. 

من أين تأتي كل هذه القبور؟

من قلوب السوريين، ومن آلامهم: جميع السوريين.

إعلان