إعلان

عندما جاء الحزن إلى العالم

عندما جاء الحزن إلى العالم

د. هشام عطية عبد المقصود
08:44 م الجمعة 16 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. هشام عطية عبد المقصود

ستصحو ذات نهار لتجده يسكن شرفة روحك العلوية، ستعرف السبب، وستدرك من دون جهد كبير أنك ورغم كل محاولات الاختباء فى سنوات الحكمة المكتسبة لازلت طفلا تعرف الأشياء من خلال مرآة روحك، إذ تعكسها فيتدفق شجنها هادئا ويسكن، لتمشى به وتستظل بغيمته وتحتسى مذاقه مرًا، ثم هكذا يتشكل لديك طعم الحزن.

متى أصاب ابتلاء حزن المعايش الإنسان الأول على الأرض وامتد، ليتشكل كل هذا الحزن في العالم؟ ثم ليصنع بالتوازي معه وضدا له سعيا نحو تلك الكلمة الساحرة "السعادة" .

سيطرح البشر الأسئلة التي ستظل منذ بدء الخلق بلا روائح المعنى، كأنها نبات شوكي في أرض صحراوية يتغذى على عطشه الدائم وانتقامه، فلا يطرح أبدا ثمرة الإجابات الهنيئة، سنحتار في فهم كيف اكتسى العالم بهذا الاسم الصعب: "الحزن"، تعبيرا عن تلك الحالة التي سيتم توصيفها بعد ذلك في أسفار ومجلدات جميعها لن تصنع شيئا كبيرا في منعه والحيلولة من دون تغلغله، وستكتفي فقط بوصف يمنح الناس ألفة التعايش معه والهروب.

يحمل تراث المواويل والأغاني المصرية كمًا ضخمًا في وصف الحزن، حزن الفقد، وحزن الغربة، أو بالأحرى الشعور بالغربة، وحزن التيه حيرة عند مطاردة وتثبيت معنى الحياة التي لا وجود ظاهر لها، وحزن عدم القدرة على تفسير مجرى الأشياء من حولك إذ تفتقد المنطق في فهم الدافع والأثر، ثم حين لا يدهش كل ذلك أحدا فيكون عاديا.

تراث الغناء والموال التاريخي تتكرر فيه مفردات السفر والغربة، حزن الارتحال من حيث ألفة المكان والبشر إلى حيث الجديد الذي هو دائما – في هذه المواويل مؤقتا غريبا موحشا- لتستمر علائق التذكار بالبشر الذين غادرتهم، والأرض التى تركتها وكل مكان شهد ما عرفت وأحببت، حتى تراب الأرض الذي سرت عليه مع جدك وأبيك وأمك وصديقك ومع المحبوبة، سيكون جميعه موضعا للذكريات، وستنتشر جميعها زهورا على كامل الخريطة التي غنيت لها في نشيدك الوطني.

في وصف الغربة والحزن سيكتب الشاعر عبد الرحيم منصور لتغنى شادية بصوت شفاف يظلله الألم ومستوقفا سحابات الغربة والسفر والارتحال علها تمطر حنينا وشغفا: "ياريت يا قطر الفراق يأخروك ساعتين" ثم تمضى حين يغادر القطار بطرح سؤال الغياب المتوسل: "رايحين تغيبوا سنه ولا تغيبوا سنتين ما تقولوا على فين".

يصف عبد الرحمن الأبنودي في " الأحزان العادية" ملامسة الحزن للروح: " تعالوا شوفوا الدنيا من مكاني، حاشتنا أغراض الحياة عن النظر، بالرغم من نبل الألم والانتظار، واتعلمنا حاجات أقلها الحذر". الحزن هكذا سيكبر في الجوار وبالقرب، وسيتشكل جسدا يتضخم بأنات غير مسموعة لمن حولك ليمنح الوجه صبغته ولتعرفه في الخطو الوئيد والضحكة المنكسرة، وهى تجاهد أن تسترد بصمة الصوت، وستدرك مع الوقت أن للفقد والغياب ما لا يحصى من حكايات الألم المرير، التي ربما حتى صرنا لا نستطيع البوح بها.

في المقابل، سيحدث بحث محموم عن السعادة، عن مظاهر وأشكال متنوعة جميعها بمثابة مسكنات حزن مؤقتة، لتصبح كلمة السعادة في الحياة المعاصرة هي الأكثر مبيعًا، وستكون قد ملأت أغلفة آلاف الكتب والمجلات، واحتلت عناوين البرامج وأسماء الألعاب، وسيمتلئ العالم ببائعي السعادة، يمنحون وصفاتها ومقاديرها ويحددون أماكن الحصول عليها وتسعيرتها، ربما بطريقة من تسع خطوات تفعلها "لتكون سعيدا" كما ينصح خبراء التنمية البشرية، وسيقلدهم خبراء التدين بنصيحة في ثلاث خطوات لتكون أكثر طمأنينة، سيمتلئ العالم بأرقام ووصفات وسيكون أيضا أكثر حزنا.

في دراسة قديمة نشرتها مجلة "نيوزيك" عن مسببات السعادة في العالم، جرت على جمهور من أصول عرقية وجغرافية وانتماءات دينية متنوعة، خلصت إلى وجود أسباب مؤقتة مانحة للسعادة، أهمها الحب بمفهومه الواسع كما يتشكل لدى مختلف الثقافات، ثم المال، وقالت إنهما مسببان عرضيان للسعادة، ولكنهما غير دائمين بل يقل تأثيرهما بعد حين وفقا للاعتياد والتشبع.

وانتهت إلى أن هناك استقرارا على عاملين دائمين للسعادة أحدهما الدين، كل دين، حيث أن إيمان الإنسان يهدئ من قسوة العالم، ثم وجود الأهل والأصدقاء المحبين، أي "السند" وشعور الفرد أنه ليس وحيدا وأن هناك من يثق بهم، ومتيقن من وجودهم إلى جواره حينما يريد أو يستشعر أزمة ما.

ستمضى الحياة سعيًا في مطاردة الحزن والألم باكتشاف وصفات السعادة واللحاق ببالونات البهجة المحلقة، وستزيد طبعات الكتب وتمتلئ الشاشات بأصحاب وصاحبات السعادة، وسيظل الناس يقاومون حزنهم ويغنون "كلنا عايزين سعادة" .

إعلان