إعلان

 الطريق إلى دمشق (١): لا شفاء من الحنين

ياسر الزيات

الطريق إلى دمشق (١): لا شفاء من الحنين

ياسر الزيات
08:58 م الأربعاء 31 مايو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كلما التقيت سوريًّا شممت فيه رائحة دمشق. وأنا أكتب، عادة، لكي أُشفى من الحنين، الحنين إلى شخص ما، أو قيمة ما، أو مكان ما، لكنني أعرف أنني لن أشفى من الحنين إلى دمشق. كنت أمنّي نفسي دائما بالعودة إلى المدينة التي أحببت، إلى ناسها وجبالها وحدائقها ومقاهيها ونهرها الصغير المتدفق بعنف مراهق طائش. ولم أكن أتخيل، حتى في أسوأ كوابيسي، أنني لن أعود أبدا، أو أنني سألتقي السوريين في المنافي، ليس كما رأيتهم في ديارهم أعزاء كراما، أبناء حياة، لا أبناء موت.

زرت دمشق مرة واحدة، في مايو ٢٠٠٣، لكنها كانت كافية لبقاء رائحتها عالقة في روحي. دخلتها وحيدا، لا أعرف فيها أحدا، فأكرمتني بباقة من الأصدقاء والذكريات. في الطريق إلى مطار القاهرة، توقفت بحقيبتي في وسط البلد لأحلق شعري وذقني سريعا. وعلي مقهى زهرة البستان، قابلت صديقي الفنان التشكيلي الكبير عمر الفيومي، فعرف مني أنني متجه إلى سوريا. طلب مني أن أحمل شيئا إلى صديق له كان يدرس معه الفن التشكيلي في موسكو، فرحبت.

وغاب عمر دقائق، ثم عاد بكارد بوستال عليه صور من القاهرة، وكتب عليه رسالة لصديقه، وأخبرني بضرورة أن أتصل به فور وصولي إلى الفندق. أوضحت له أنني سأصل بعد منتصف الليل، فقال: "هذا هو الوقت المناسب للاتصال". ظننته يمزح، لكنه أكد على جديته.

كلما وقفت أمام ضابط جوازات في دولة عربية تحسست رقبتي. في الطائرة، أخذت أفكر ماذا أقول لضابط الجوازات، عندما يتوقف أمام وظيفتي الصحفية، كما يحدث في كل مطار عربي، ويسألني عن سبب زيارتي، قبل أن يستجوبني بأسئلة كثيرة، أو يحيلني إلى مكتب خلفه، تابع على الأغلب لجهاز المخابرات في بلده. مهنة الصحفي التي أتشرف بها تتحول في المطارات العربية إلى تهمة جاهزة، تدفعك إلى الشعور بأنك جاسوس، وخصوصا في تلك الدول التي تتسم بمستوى عال من القمع والسطوة الأمنية. ولكن ضابط الجوازات السوري ابتسم في وجهي بمجرد أن رأى جواز السفر المصري، ورحب بي ترحيبا بدا لي غريبا، قبل أن يبتلع ابتسامته عندما وقعت عيناه على المهنة. مع ذلك، لم يحدث الأسوأ، واكتفى بسؤال مهذب عن سبب الزيارة، فقلت: "سياحة".

في الطريق إلى الفندق استجوبني سائق التاكسي بطريقته، لكنه رغم ذلك كان ودودا، محبا لمصر والمصريين واللهجة المصرية، وهو ما غفر له عندي أسئلته "الأمنية". قلت لنفسي إنه يؤدي عمله، وابتسمت. تأكدت في الفندق أن اللهجة المصرية ستكون مفتاحي لهذا البلد، ومع الوقت أدركت أنها ستكون مفتاحي لقلوب أهلها كذلك.

يحب السوريون مصر والمصريين بلا مبرر، وهو الأمر الذي تأكد لي في كل خطوة أنه ليس مصادفة. في المقاهي يكرمونني لأنني مصري، وفي المحلات يمنحونني تخفيضا بدون أن أساوم، لمجرد أنني مصري. وعندما خرجت من سوريا، بعد أسبوعين من ليلة وصولي، كنت محملا بشعور كبير بالذنب، لأنني وجدت شعبا يحبني مجانا، فيما أُراكم مبررات لمحبتي. في كل حديث، وفي كل لفتة، وفي كل خطوة، رأيت السوريين يغزلون محبتهم للمصريين، بشغف وبلا انتظار لمقابل.

تجاوزت الساعة منتصف الليل، عندما طبقت نصيحة عمر الفيومي واتصلت بصديقه الدكتور عهد فاضل رجوب، مستعدا للاعتذار عن قلة ذوقي وتبريرها بأن عمر هو الذي طلب مني الاتصال في هذا الوقت المتأخر. جاءني صوته مرحبا لكنه جاد وحاسم: "هل يمكن تمر عليّ غدا في كلية الفنون الجميلة؟". وشرح لي كيف أصل إليها. في الصباح كنت أمام باب الكلية، وأدهشني أن بلدا أمنيا بامتياز كسوريا لا يضع حرسا جامعيا على بوابة الكلية. لكنني أدركت مع الوقت أن الأمر لا يحتاج، لأنهم موجودون في كل مكان، سواء كانوا من الطلبة أو من الأساتذة.

يعمل عهد أستاذا في كلية الفنون الجميلة، ولاحظت أنه يحظى بتقدير كبير بين طلابه. لم يكتف بالترحيب، بل اصطحبني في جولة للتعرف على الكلية وأساتذتها وطلابها، وفي خلال دقائق كانت لدي ثروة من الصداقات. وقالت لي رئيسة قسم التصوير إن الكلية تنظم رحلة صباح اليوم التالي إلى صافيتا، قرب الساحل، وعرضت عليّ مصاحبتهم. تردد الصعيدي الحذر داخلي، لكن عهد شجعني بالنظرات ثم قال: "ستستمتع جدا". في الصباح، كنت في الموعد داخل الأوتوبيس، مع الطلبة والأساتذة، في الطريق إلى الجنة.
 وللرحلة بقية، الأسبوع القادم.

إعلان