إعلان

صلاح جاهين.. سبيكة الفن المصري الخالص

صلاح جاهين.. سبيكة الفن المصري الخالص

محمد شعير
09:21 م الخميس 28 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إنّه صلاح جاهين (1930 ــــ 1986) سبيكة من الإبداع الخالص، يذهب في الفنّ إلى حدوده القصوى، برع في الشعر والكاريكاتير والتمثيل وكتابة الأغنية. أمنية واحدة لم تتحقق له: أن يكون راقص باليه. جاهين في كلّ الفنون التي مارسها، كان يريد فقط أن يكون نفسه: تمرّد على والده الذي أراده أن يصبح مثله قاضياً ويترك الفن، لكنّه تحدى أباه: «سيعرفك الناس يوماً بأنك والد صلاح جاهين». وتمرّد على اسمه «محمد صلاح الدين حلمي» واختار أن يكون فقط «صلاح جاهين»!

حتى عندما سئل في أحد حواراته عن كاتبه المفضل، قال: صلاح جاهين!

ربما يكون سر خلود جاهين وبقائه بيننا الآن، في ثلاث كلمات، هي: البساطة والبراءة والمصرية.. وهي الكلمات الثلاث التي كان يعلقها في برواز في صالون منزله بجوار صورة جمال عبدالناصر..

كتاباته لم تكن مجرد كتابات عابرة، حتى الفنون التي لا تحتاج إلى مجهود مثل العديد من الإعلانات الشهيرة في السبعينيات والثمانينيات، كانت تحمل «رؤية فيلسوف كبير، تختلف نظرته وتتعمق باتساع مواهبه». باختصار، كان «الفن مزاجه وملعبه»، باعتباره نوعاً من اللعب، مهما حوى أفكاراً ومواقف سياسية أو اجتماعية أو فلسفية. الفن كان القيمة العليا والأولوية الكبرى في حياته. لم يكن يعنيه شيء آخر.

حتى سن الـ14، كان جاهين «أخيب تلميذ في الرسم» على حد وصف شقيقته؛ لأنه كان يرسم من خياله ولا يلتزم بتعليمات مدرس الرسم. وظلت أزمته مع الرسم قائمة حتى جاء مدرس جديد يدعى «أستاذ أرناؤوطي» نحّى المنهج المقرر جانباً ولم يفرض على التلاميذ رسم موضوعات الطبيعة الصامتة التي كان يكرهها جاهين. وأخذ يحكي لهم بعض القصص الخيالية وقصص الأدب العالمي التي كان يهدف منها إلى كسر جمود الرسوم التقليدية التي اعتادها التلاميذ. وهنا وجد صلاح متنفساً لقدراته الفنية الحرة التي لا تعترف بالمحفوظات والقوالب النمطية. لذلك عندما طلب المدرس رسم «غابة تهب عليها الرياح»، كانت تلك الرياح بمثابة مولد الكهرباء الذي أضاء الطريق أمام موهبة جاهين التي هبّت بعد سنوات رياحها على فن الكاريكاتير، فغيّرته، وتحوّل جاهين إلى جامعة تخرج منها مئات المبدعين في الرسم والشعر والفن!

ورغم أن السياسة «مهلكة» كما يقول جاهين في إحدى رباعياته، إلا أنّه كان منشد الثورة، التقى حلمه بالمدينة الفاضلة التي تمناها، مع أحلام النهضة لدى عبدالناصر، فاندفع بصدق ليغني للثورة ويبشر بأحلامها. لكنّ نكسة 67 جاءت لتحول الحلم إلى كابوس، وكان رحيل عبدالناصر الأقسى عليه. شعر بأن مثله الأعلى مات، وأن آخر أمل في تحقيق حلم المدينة الفاضلة قضى عليه الموت. وعندما حكم السادات مصر، وظن أنّ جاهين سيناصره، فوجئ بأن «مفيش بينهم كيميا»، فقد كان صلاح لا يحب السادات، بل كان يعانده بكتابة قصيدة جديدة في «الأهرام» كل عام في ذكرى وفاة عبدالناصر، ما أغضب السادات. في تلك الفترة، بدأت حملة هجوم شديدة على عبدالناصر، ثم على جاهين. وتحت ضغط الهجوم، أعلن «ندمه» على أغنياته، لكن بعدما استعاد ثقته بنفسه، عاد ليؤكد: «لست نادماً على ما كتبته من أغانٍ للثورة. لقد أخطأت بما قلته عنها أخيراً. لكن لحسن الحظ لم يصدق الناس ما قلت». النكسة كانت بداية انكسار جاهين، لكن الانكسارة القاتلة كانت في كامب ديفيد. بعد 67 لم يتوقف جاهين عن الكتابة، ولم ينسحب من الحياة ولا من الحلم، حتى عندما تعرض للهجوم في السبعينيات. انسحابه من الحياة بدأ مع كامب ديفيد، وهذه الانكسارة عبّرت عن نفسها في قصيدته الشهيرة «على اسم مصر». في ليلة 16 (أبريل) 1986، ليلة الغارة الجوية الأميركيّة على ليبيا التي سقط فيها المدنيون، دخل جاهين غيبوبة الموت التي كانت كل الأحداث المحيطة به تدفعه إليها: تلاميذه تطاولوا عليه، وقال بعضهم إنه انتهى مع عصر عبدالناصر؛ ونسوا أنه كان الجبل الذي صعدوا عليه ليراهم الناس نجوماً في السماء.

إعلان