إعلان

السياسي المحنك والدنجوان الذي صنع الملك فاروق وعشقته أمه

السياسي المحنك والدنجوان الذي صنع الملك فاروق وعشقته أمه

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 13 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

رغم مرور أكثر من واحد وسبعين عاما على وفاته في حادث سيارة مروع فوق كوبري قصر النيل، الذي قُتل عليه أيضا رئيس مجلس الشعب الأسبق الدكتور رفعت المحجوب عام 1990، لا يزال أحمد حسنين باشا، الرحالة عاشق الصحراء والطيران، وأحد أنبه خريجي جامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة، وراعي الملك فاروق وصانعه، حيًا في ذاكرة المهتمين بتاريخ مصر، والذين يأكلهم الأسى على غياب رجال الدولة في حياتنا السياسية الراهنة، وأولئك المهتمين بتأثير النخب على القرار، أو المتيّمين بسير المغامرين والمختلفين أو الاستثنائيين من الرجال، أو أولئك الذين لديهم إيمان جازم بأن قراءة ما جرى في الماضي، من وقائع وأحداث وعلامات وبصمات وضعها رجال، مهم لنا كي نفهم الحاضر، ونتنبأ بالمستقبل.

لن يذهب الذهن بعيدًا عن كل هذه المعاني ونحن نطالع كتاب الكاتب الصحفي الأستاذ محمد السيد صالح رئيس تحرير جريدة المصري اليوم "أسطورة القصر والصحراء.. أحمد حسنين باشا" الصادر عن "دار بتانة" مؤخرا، والذي بدا فيه كواحد من المتيمين بالتاريخ، مزاوجاً في التعامل معه بين طريقين: الأكاديمي المعتاد عليه، حيث عاد إلى مراجع ووثائق وقابل شخصيات وزار أماكن وهو يجمع مادة الكتاب، والسردي الأقرب إلى الرواية وهي مسألة سعى فيها إلى أن يتلمس بعض خطى أبو المعاطي أبو النجا في روايته "العودة إلى المنفى" التي دارت حول حياة المناضل العظيم، خطيب الثورة العرابية، عبد الله النديم، محاولا أن يُمعن في الوصف والسرد والتعبيرات المشوقة، وهي مسألة يعبر عنها هو قائلا: "التوثيق هو الذي يشغلني دائما في عملي، وتشغلني أيضا فكرة اقتحام شكل جديد من أشكال الكتابة الصحفية، فرأيت أن أجرب شكلًا يجمع كل الفنون الصحفية مصبوبة في قالب روائي، وهي هنا حبكة صحفية عن شخصية حقيقية ورائدة قرأت في فترة مبكرة من حياتي سيرا ذاتية لمشاهير، لكن أقرب هذه الأشكال التي أريد أن أحتذيها هي رواية العودة إلى المنفى".

ولأن الكتاب أخذ هذا القالب فكان من الطبيعي أن تولد على ضفاف حكايته الرئيسية، أو تنهض في ركاب بطله الأول أحمد حسنين باشا، حكايات صغيرة، تتلمس تواريخ وسير أشخاص مثل محمد صدقي أول طيار مصري، وحكاية المطربة أسمهان التي ربطتها علاقة ببطل الحكاية، وكذلك عزيز المصري الذي شاطره في البداية الإشراف على تجهيز فاروق ليصير ملكاً، ثم اختلفا وافترقا، كل في طريق. وهناك حكاية الشاعر بيرم التونسي، وحكايات أخرى تتوالد عبر سرد متدفق لتخبرنا ببعض تفاصيل عن شخصيات كانت لها أدوار في حياة حسنين باشا، بشكل خاص، وفي حياة مصر بصفة عامة.

في الكتاب أيضا تتبدى تواريخ وأوصاف لبعض الأماكن كالصحراء، خصوصا الواحات التي اكتشفها حسنين باشا في رحلته الغريبة التي دونها في كتاب عميق، وكذلك وصف للقصور والبيوت وضريح بطل الكتاب بعد وفاته، والذي بناه المهندس المعماري العظيم حسن فتحي.

كما تنجلي تواريخ وحكايات عن الأندية الرياضية وبعض الرياضات، وتاريخ الطيران، وتاريخ ومسالك وبعض أفكار وتقاليد الطريقة السنوسية التي كانت لها اليد الطولي في الصحراء المتاخمة لحدود مصر الغربية، وحتى داخل مصر نفسها في ذلك الزمن.

يرسم الكاتب ملامح إيجابية لحسنين باشا، فهو في نظره مغامر ذو إرادة فولاذية، ثعلب سياسي ماهر يجيد القفز برشاقة فوق الحبال ويخرج دومًا سليمًا، وذلك في إدارته للتوازن بين القوى السياسية الثلاث التي كانت موجودة في مصر وقتها: الحركة الوطنية التي يقودها الوفد، والملك وأتباعه، والإنجليز المحتلين، لكنه لا يفقد في كل هذا اعتداده بنفسه، وإيمانه بقدراته، وهو دنجوان امتلك قلب الملكة نازلي أم فاروق، التي كانت أرملة لرجل يكبرها بربع قرن على الأقل وهو الملك فؤاد، فتزوجها عرفيًا، وحين مات سكنها الحزن على فراقه، ولم تطق الصبر في الأماكن التي جمعتهما فغادرت مصر إلى غير رجعة.

وحين نمضي في قراءة هذا الكتاب الذي تصل صفحاته إلى 287 صفحة من القطع المتوسط يستقر في أذهاننا العديد من القضايا والأفكار، التي ترد بشكل مضمر أحيانا، وصريح أحيانا. منها ذلك العام الفارق في تاريخ الثقافة المصرية وهو 1889 الذي ولد فيه طه حسين وعباس العقاد وعبد الرحمن الرافعي ونجيب الريحاني ومكرم عبيد وأحمد حسنين باشا، وهي النخبة التي تألفت مع ثورة 1919، وساهمت في إثراء حركة ثقافية وفكرية استفاد منها ضباط يوليو بعد 1952، لكنها تنكرت للنزعة الليبرالية التي كان يمثلها هؤلاء، وأكلها الاستبداد في النهاية، حتى صارت تحكم جبرًا وتزويرًا وتزييفًا بعد أن كان الناس يلتفون حولها.

ويبين الكتاب كيف تتضافر مجموعات معينة كي تعظم نفوذها، وتعزز وجودها في إدارة الدولة، على هيئة جماعات مصالح أو نخب أو شلل. فحسنين باشا كان ينتمي إلى ما تسمى "مجموعة أكسفورد" التي أعطاها الاحتلال الإنجليزي فرصة في الإدارة، مطمئنا إلى كفاءتها. وقد تكررت هذه المسألة في الحياة السياسية المصرية حتى وجدنا ما تسمى "شلة باريس" تصل إلى منافذ الحكم في عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.

ويذكر الكتاب كيف أن نزيف الأدمغة، أو هجرة العقول والكفاءات ليست ظاهرة مصرية جديدة، فمحمد صدقي أول طيار مصري لم يجد فرصة عمل تناسب إمكانياته واضطر للهجرة إلى أوروبا. كما يشرح، في اتجاه آخر، جانبًا من علاقة الرياضة بالسياسة منذ إنشاء الأندية الرياضية والاجتماعية وإلى الآن.

ويقارن الكاتب بين نمطين من الشخصيات، حسنين باشا، وعزيز المصري الذي كان لديه اعتزاز شديد بنفسه، وإباء وعدم قبول أي ضيم أو إهانة، فكان نصيبه الإبعاد، ليضرب مثلا على أن من يحكمون مصر ينزعون دوما إلى البحث عن مطيعين صامتين إلى درجة جعلت باب الخدم هو أوسع باب على أرض النيل.

ويعطي الكتاب درسًا في كيفية صناعة صورة الحاكم، معددًا في هذا ما فعله حسنين باشا في سبيل أن يظهر الملك فاروق بالصورة التي كان عليها في البداية، من حيث أنه ملك قريب من الشعب، متدين، ومحب للثقافة والفنون، وهي صورة خسرها فاروق بالتتابع لاسيما بعد وفاة حسنين باشا.

وهناك عبارة في الكتاب منسوبة إلى الملك فؤاد يجب التوقف عندها مليًا، إذ كان يرى فيها أن "الأمة المصرية عاطفية وجاهلة وساذجة ومندفعة وناقصة الخبرة"، وهي صورة نمطية جائرة وزائفة ومغلوطة انطبعت دوما في أذهان الحكام، قبل يوليو وبعدها، ولا تزال سارية إلى الآن، رغم أن من حكموا ويحكمون ليسوا الأرفع فهمًا ولا علمًا ولا ثقافة ولا تعليمًا ولا حتى أخلاقًا من بين المصريين.

إن هذا الكتاب الذي بذل مؤلفه جهدًا فائقًا حتى يخرج على هيئة تلك يجعلنا نطرح سؤالًا عن أصناف كتاب التاريخ، وهم الدارسون المختصون، والمغرضون الذي يقصدون بتأريخهم تشويه حدث معين أو إفقاد الأمة الثقة في نفسها أو خدمة الاستبداد والفساد مثلما جرى مع الذين سارعوا بتشويه ثورة يناير ومن قبلها ثورة 1919 وثورة عرابي وشخصه. وهناك أيضا المتيمون بالتاريخ، الذين ينظرون إليه باعتباره مخزنًا للحكمة، ومنبعًا فياضًا لفهم ما يجري، وما سيأتي، وهم من ينتمي الكاتب إليهم، كما يبدو من سطور كتابه.

إعلان