إعلان

أحمد العاجز (الكفيف).. يكشف سر جريمة ريّا وسكينة!

أحمد العاجز (الكفيف).. يكشف سر جريمة ريّا وسكينة!

خيري حسن
09:02 م السبت 25 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على ناصية حارة علي بك الكبير بالقرب من قسم اللبان بالإسكندرية، يقف المعلم "علي أبو دومة" بعد صلاة العصر، يمر في الشارع "سليمان أفندي مدكور" متجهًا للمقهى القريب على الناصية. خير يا أبو دومة.. لماذا تقف هكذا في مكانك؟ رد: أم العيال خرجت منذ الصباح ولم تعد. وقف أمامه يحاول أن يهدّئ من روعه وخوفه، وارتباكه الملاحظ على ملامح وجهه. قال له: "خير.. خير.. هتروح فين يا راجل.. إن شاء الله هترجع".

كانت المدينة في ذلك الزمان- من وطأة عمليات الخطف المرعبة والحكايات التي تحكى- تنام على وسادة من الرعب، وتتغطى بغطاء الخوف، والسبب اختفاء النساء على يد العصابة المجهولة. اتفضل يا سليمان أفندى، أنا لن أذهب معك للمقهى اليوم، أنا في انتظار عودة زوجتي.

رد سليمان أفندي: ربنا يرجعها بالسلامة.. وكل سنة وأنت طيب، مولد النبي على الأبواب. رد الزوج، وهو يسند ظهره إلى الحائط، قائلاً: ربنا يستر، الدقائق تمر، ولحظات الانتظار قاسية. والخوف صوته مسموع في الأزقة والحارات والشوارع من حوله.

بعد دقائق نظر"أبودومة" بعينه بعيدًا، فرأى الشيخ أحمد عبدالسلام، يهرول قادمًا في اتجاه قسم اللبان. تقدم إليه وسأله: خير يا شيخ عبدالسلام: رد دون أن يتوقف أمامه، قائلاً: الواد أحمد العاجز ابن شقيقتي الصغرى، وهو يحفر في البيت رقم 5 في الحارة (حارة ماكوريس) لعمل دورة مياه، وجد ذراعًا وبقايا جثة امرأة. أبودومة يرتبك خوفًا على زوجته، أن تكون هي القتيلة. طمأنه الشيخ عبدالسلام قائلاً "يا راجل دى جثة قديمة". ثم أسرع الشيخ إلى القسم. كان ذلك يوم الأحد 14 نوفمبر 1920. الساعة اقتربت من الخامسة مساءً، والخبر بدأ يتسرب لأهل الحي. أما داخل القسم، فكان النوبتجي هناك، يغلق أوراق بلاغ تقدمت به قبل قليل "أم فردوس" التي اختفت ابنتها "فردوس" من أيام، بعدما شوهدت مع "سكينة بنت علي همام"، وهي نفسها- سكينة- كانت تسكن قبل 3 شهور في تلك الغرفة التي تحوّلت إلى مقبرة في منزل الشيخ عبدالسلام.

دخل الشيخ علي النوبتجي فوجده يستعد لمغادرة القسم، لكن عندما قص عليه ما رآه هو وابن أخته في منزله، جلس وفتح محضرًا آخر يحمل رقم 43 جنايات اللبان لسنة 1920. بعد دقائق طلب له كوب ماء حتى يهدأ، وبدأ الإدلاء بأقواله. على باب القسم تجمع بعض الأهالي.. بينهم "أبودومة" الذي جاء وترك الناصية التي كان ينتظر عليها زوجته.

بعد 40 دقيقة خرج الرجل من القسم. وفي اللحظة نفسها طارت برقية إلى حكمدارية الإسكندرية. في الصباح كانت المملكة المصرية تتابع سير التحقيقات بعد نشر الخبر في الصحف، التي كانت قبل أيام تنشر قصص خطف النساء في الإسكندرية، ومعها حكايات في معظمها ليست حقيقية، مما جعل الرعب يصيب كل النساء في بر مصر.

عدد الضحايا كان وصل إلى 19 قتيلة في 11 شهرًا تقريبًا. على مدار 15 يومًا واصلت جهات التحقيق بحثها وألقت القبض على ريا وسكينة ومن معهن من الرجال. النيابة تسأل، وهم ينكرون. النيابة تحقق، والبوليس يحفر فى البيت الذى كانت تسكن فيه "سكينة". وما بين بيت ريا وسكينة بدأت تظهر جثث الضحايا الواحدة تلو الأخرى.

وفي نفس الوقت ينكر القتلة الاعتراف بالجريمة. أما الشهود فهم خائفون من بطش رجال ريا وسكينة، إذا ما خرجوا من القضية.

الأيام تمر والرأى العام في الإسكندرية ومصر كلها يضغط ويسأل ويستفسر. والنائب العام العمومي وقتها، يقبل اعتذار كامل بك عزيز، وكيل النائب العام في الاسكندرية، الذي ظل 12 يومًا يحقق دون جدوى، لم يصل إلى أي دليل إدانة دامغ ضد ريا وسكينة. من القاهرة جاء سليمان بك عزيز، رئيس نيابة القاهرة، بتكليف من النائب العام وقتها، ليكمل التحقيقات. وبعد ثلاثة أيام من وصوله كان قد وضع يده على الخيط الذي تحول إلى حبل التفّ حول رقبة المتهمين. الخيط هو الطفلة "بديعة"، ابنة ريا. دخلت الطفلة إلى مكتب المفتش.. ضعيفة الجسد.. زائغة العين.. ترتعش.. خائفة.

قال المحقق: إسمك إيه؟ ردت: أنا خائفة.. أنا خائفة.. يسأل: تخافين من إيه؟ ترد: أخاف من خالتي وأمي وزوج أمي (تقصد أباها)، فالطفلة من تحجّر قلب أبيها كانت تعتقد أنه زوج أمها. ترك المحقق مقعده، وتوجّه إليها، جاء لها بطعام وشراب وتركها تأكل وتشرب وتلهو قليلاً ثم سألها بهدوء عن الذي كانت تراه في بيت أمها وبيت خالتها، فقالت: "كنت أبص من نافذة المنور ذات مرة، فرأيتهم يحفرون قبرًا تحت الصندرة، ويضعون فيه فردوس"، وسؤال وراء سؤال شرحت الطفلة حكايات قتل لخمس نساء، هن: فردوس بنت فضل الله، وفاطمة العورة، وزنوبة، ونبوية بنت علي، ونظلة بنت أبوالليل.

كانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل، والطفلة أنهكها الكلام، فأمر المحقق بعودتها إلى الملجأ العباسي. في الصباح تحركت سيارة محاطة بحراسة شديدة من سجن الحضرة تضم ريا بمفردها، وبعد اعترافات ابنتها، انهارت واعترفت بكل شيء. وعند الساعة الخامسة من ذلك اليوم كان جميع أفراد العصابة قد اعترفوا بعضهم على بعض بالتفصيل.

في المساء دخل المعلم أبودومة إلى مقهى حارة علي بك الكبير، وجلس يشرب الشيشة، والشاي بالقرب منه، كان يجلس إليه سليمان أفندي وسمعه وهو يحكي عن اعترافات المتهمين، وكيف أن ضعيف البصر أحمد العاجز هو الذى كشف عن الجريمة وأن اعترافات الطفلة بديعة هي التي ساقت العصابة إلى حبل المشنقة. كان يقول ذلك والقهوجي "سيد العدل" يبدل له حجر الشيشة بآخر ويتمتم قائلاً: يا سلام يا سليمان افندي.. فعلاً يوضع سره في أضعف خلقه. قالها وهو ينظر للمعلم علي أبودومة الذي كان قد فرغ من شرب فنجان قهوته وفي طريقه لمغادرة المقهى، عندما لمحه "سليمان أفندي" فسأله بصوته الجهوري وهو يضحك: هل عادت أم الأولاد سالمة يا أبودومة أم أنها سقطت في يد عصابة ريا وسكينة؟ رد الرجل وهو يطلق ساقيه للريح: الحمد لله.. رجعت.. كانت خارج الحي، تشتري لنا حلاوة المولد من مكان بعيد عنا بعض الشيء.

 

إعلان