إعلان

عندنا وعندهم

عندنا وعندهم

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 24 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يزعجني من المتحدثين، من لا حديث له سوى المقارنة بين ما يحدث في بلدنا، وما شاهده سيادته في بلد آخر، خلال رحلته السياحية القصيرة إلى البلد الأجنبي، أو خلال فترة عمله الممتد هناك.

يتحدث الواحد من هؤلاء بانبهار عما شاهده في البلد الأجنبي، فيبدو مثل "قروي ساذج بهرته أضواء المدينة". يقفز هذا الوصف إلى ذهني كلما صادفني أحد هؤلاء، وهم كثر، وهي العبارة الشهيرة التي طالما استخدمها كتبانا لوصف الدهشة التي تصل إلى حد الصدمة التي تصيب القادمين من أعماق الريف لزيارة القاهرة، عندما كانت المسافة الحضارية بين القاهرة والأرياف مسافة فلكية.

لم يعد الريفيون ينبهرون بما يجدونه في القاهرة، فقد أخذت القاهرة مسحة من الريف، وأخذ الريف مسحة من التحضر، وتولى الإعلام القيام بباقي المهمة، فأفرط في تقديم القاهرة للناس، فباتت مألوفة حتى لمن لم يزرها من أهل الأقاليم.

توقف الناس عن الانبهار بالقاهرة، لكن كثير من المصريين ينبهرون بما يشاهدونه في غير بلادنا. أغلب الملاحظات التي تلفت نظر هؤلاء هي من نوع الملاحظات السياحية التي ترى الأمور من الخارج، ولا تتجاوز السطح والقشرة الخارجية إلى عمق الأمور. هؤلاء يتحدثون بطريقة سياح الشواطئ والملاهي، سياحة الفخامة والإبهار، وليسوا حتى مثل سياح الثقافة والآثار والتاريخ، الذين يغوصون في جوهر الأشياء وأصولها.

النظام والنظافة والتنوع الكبير في السلع الفاخرة يلفت نظر القرويين عند نزولهم إلى بلاد النفط العربي. يبالغ هؤلاء في المقارنة "عندنا وعندهم"، مع أن الواضح وضوح الشمس هو أن للأمر صلة بتوافر الأموال التي يمكنها شراء أشياء لا يطيقها الفقراء أمثالنا. صحيح أن قدرا معتبرا من التخطيط والخيال يقف وراء ما نراه في مدن مثل أبو ظبي ودبي، ولكن حتى في وجود التخطيط والخيال، فإن الوضع كان ليختلف تماما لو لم يكن المال متاحا بوفرة.

بالإضافة إلى النظام والنظافة والسلع الفاخرة، يباهي القادمون من بلاد الغرب المتقدمة بالحرية واحترام القانون والإنسان وحقوقه التي وجدوها هناك، وهذا مستوى أرقى من المقارنة. لكن لا تنخدع كثيرا بهذا النوع من الانبهار. فليس كل من أعجبه احترام القانون في بلاد الغرب يمتنع عن التلاعب بالقانون عندما يعود للوطن، وليس كل من يقدر الحرية التي يتمتع بها الناس في بلاد الفرنجة، يرضى للناس بالتمتع بالحرية نفسها في بلادنا.

في بعض من أصحاب المقارنة "عندنا وعندهم" غيرة على الوطن، حتى وإن عبروا عن ذلك بسذاجة وسطحية. لكن بعض المباهين بما رأوه واستهلكوه في بلاد الغربة يبالغون في الحط من شأن أنفسهم وبلادهم، فيبدو الأمر كله وكأنه فاصلا من إهانة الذات الوطنية، دون أن يلاحظ هؤلاء ما يمارسونه من تحقير وكراهية الذات.

للتقدم في بلاد الآخرين أسباب علينا البحث عنها، وللتأخر في بلادنا أسباب يمكن تحديدها، وعندها لا تكون المقارنة "عندنا وعندهم" ممارسة لجلد الذات وإهانة للكرامة الوطنية.
الأهم من هذا هو أن يكون من يقوم بعقد المقارنة "عندنا وعندهم" مستعدًا لبذل جهد - ولو محدود - لإصلاح ما يراه فاسدًا عندنا، فيمتنع عن إلقاء المخلفات من سيارته، ووضع القمامة على الرصيف أمام بيته، وبناء منزل جديد بأموال كسبها "عندهم" على الأرض الزراعية، وفتح محل تجاري في دور أرضي غير مخصص لذلك، وعندها سأصدق أن القصد من المقارنة هو الغيرة على الوطن، وليس المباهاة والفشخرة والتعالي.

إعلان