إعلان

  لا تُعطِني مِنديلًا إذا بكيتُ!

د. براءة جاسم

لا تُعطِني مِنديلًا إذا بكيتُ!

د. براءة جاسم
08:55 م الإثنين 13 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما زلتُ أذكرُ الجدلَ الذي دارَ في إحدى المحاضراتِ حينَ أخبرَنا أحدُ أساتذتِنا بأنه يجبُ ألّا نعرضَ على المريضِ مِندِيلًا إذا بكَى في جلسةِ العلاجِ النفسِيّ، كيف لا؟! تساءل أغلبُ الطلبةِ مُستنكِرينَ ما قالهُ الأستاذ. فأجاب: ببساطةٍ لأنّ فعلًا كهذا يتضمّنُ رسالةً غيرِ مباشرةٍ للمريضِ تقول: "توقف عن البكاء". جادلَهُ أحدُهُم مُستدرِكًا: لكنّ المريضَ سيظنُ أنّ المعالجَ لا يهتمُ لأمره وليس متعاطفًا معه، وبطبيعةِ الحالِ فإن مَن يَبكِي، تملأ الدموعُ ملابِسَهُ، فضلًا عنِ المُخاط عندَ النّشيجِ أحيانًا؛ ضحِكَ الجميع. قالَ الأستاذ: قبلَ الجِلسةِ ضَع علبةَ المناديل في مكانٍ يراهُ المريضُ فيختارُ أن يأخذَ منها إذا أرادَ، أو انتظرْ أن يطلبَ هُو منكَ مِنديلًا.

سأستخدمُ المِنديلَ كرمزٍ يَستعِيضُ البعضُ عنه بعباراتٍ مثل، "ألستَ كبيرًا على البُكاء؟"، "الرجالُ لا يبكون" ذلك إن كان الذي يبكي رجلًا، "البكاء أو الحزن للضعفاء، قليلي الإيمان"، "لا تبكِ"، "لا تحزنْ"، "هل تُسمّي هذه مشكلة"، "هذا الموضوعُ لا يستحقُّ كلَّ هذا".. وغيرُها الكثيرُ من عباراتٍ لا حصرَ لها نسمعُها جميعًا. والأدهى والأمرُّ من تلكَ العبارات أنكَ تجدُ أحدَهُم يستمعُ لحال ذلك الشخص ومأساتِهِ فيُذكّرُه بأنه أفضلُ حالًا من كثيرين لم يعِشْ هو يومًا في مآسيهِم، وربما بدأ ذلك المستمعُ نفسُه في الشّكوَى من سوءِ حالهِ وما يُعانيهِ هو إذا ما قورِن بحال الشاكي ظانًّا أنه بذلك يخفّفُ من ألمه أو يساعدُه في تحمّلِ عِبء مشكلتِه.

لا شكَّ أن معظمَنا يفعلُ ما سبقَ ذِكرُه قاصِدًا خيرًا، خاصةً مع المقرَّبين، فلا يريدُ أن يرى مسحةَ حزنٍ أو دمعةَ بكاءٍ في عين من يحب.

البكاءُ أو الحزنُ ليسا دليلَ ضعفٍ أو قلةَ إيمانٍ أو غيرَ ذلك. علينا أن نتخلصَ مِن تلك الأفكارِ الموروثةِ العقيمةِ التي لا تُسمنُ ولا تُغنِي مِن جوع، بَل على العكسِ تمامًا تُحولُنا إلى مرضَى نفسيين، نخافُ من إظهارِ ما نشعرُ به فندفنُهُ داخلَنا ثمّ ندعي أنّنا بخير، مما يضرُّ بنا نفسيًا وحتى جسديًا، ذلك أنّ الصحةَ النفسيةَ السيئةَ تنعكِسُ سلبًا على الصحةِ الجسدية (سأتناولُ هذا في موضوعٍ آخر لاحقًا إن شاء الله).

حذارِ أن تجعلَ الشخصَ يشعرُ بالذنبِ لتعبيرِه عن مشاعرِه، أو تقلّلَ مِن شأنِ ما يمرُّ به، أو تسلخَه فتنزعَ عنه صفةً إنسانيةً بقولِكَ مثلَ هذه العباراتِ حتى إن كنتَ تقولُها بحسنِ نية. التفاعلُ مع ما يحيطُ الفردَ من أحوالٍ متباينة كأنْ يفرحَ بما يسُرُّه فيعبّر عن فرحِه بما يشاء، أو يحزنَ لما يسوؤهُ ويؤلمُه نفسيًا لدرجةٍ تبكيه هو أمرٌ طبيعيٌ وليس العكس.

الحلُّ إذن هو إما أن تصمُتَ أو تسألَ الشخصَ ماذا بوسعِكَ أن تفعلَه لتخفّف َعنه.

نهاية أقول، اعلموا أن البكاءَ حقٌ، والحزنَ حقٌ، فلا تسلُبوا الناس حقوقَهم بسوء مفاهيمِكم.

إعلان