إعلان

حسن محفوظ.. معلقًا على مشانق الوطن

حسن محفوظ.. معلقًا على مشانق الوطن

خيري حسن
09:00 م السبت 11 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد ظهر يوم الأربعاء 13 يونية (حزيران) عام 1906. خرج أحمد حسن محفوظ من باب مسجد القرية، بعدما انتهى من صلاة الظهر. تحرك في درب صغير موصل بالشارع الكبير، الذي ينتهى بـ«جرن» القمح، بعد دقائق وصل إلى بيته الذى يقع على أطراف القرية.

«محفوظ» الذي وصل عمره للسبعين، وانحنى ظهره، جلس أمام بيته. واستقبلته زوجته، وفى يدها قطعة جبن ورغيف عيش وقليل من الجرجير و«قُلة» بها ماء بارد، لأن درجة الحرارة تجاوزت الـ43 درجة مئوية. جلس الرجل يتناول الغداء، مدّد جسده قليلاً على «المصطبة» التي يجلس عليها، وقبل أن يهاجمه النعاس، فوجئ بخمسة من ضباط الإنجليز يحملون بنادقهم ويمرون من أمامه، اعتدل واقفًا، ولمح معهم مترجمًا. سأله: «الخواجات دول يا أفندي رايحين فين؟» رد: جاءوا ليصطادوا الحمام من «الجرن». رد: ولكن «الجرن» ليس مكانًا للصيد، لم يهتم بكلامه وواصل السير مع الجنود. عاد الرجل وجلس في مكانه، وطار «الحمام» خوفا من طلقات الرصاص، مثلما «طار» النوم من عين «محفوظ».

كان الضباط الخمسة «دكتور بوستك» والملازم «بوتر»، والميجور «كوفين» والملازم «سميث ويك» و«الكابتن بول» وصلوا قبل قليل إلى بلدة «دنشواى» بمحافظة المنوفية. بدأ «بوستك» وزميله «بوتر» إطلاق الخرطوش من بنادقهما على الحمام. الطلقات تتوالى من الضباط والحمام يطير هنا وهناك، والفلاحون في حالة خوف من المشهد. محفوظ مازال يجلس أمام بيته دمه يغلى، وزوجته العجوز بجواره تتمتم «وإحنا مالنا بس ياسي محفوظ» ينظر لها بعينيه، ويتحدث بكلمات لا تسمعها لضعف سمعها. ويقول «هذه أرضنا.. وهذا حمامنا، وهؤلاء محتلون يقتلون فينا الأمل ويسرقون الفرح من عيون الغلابة».

بعد دقائق طارت رصاصة طائشة من بندقية الضابط «بوتر» فأصابت كوم قمح محمد عبد النبي، فاشتعلت فيه النار، وطلقة أخرى طائشة من زميله «بوستك» أصابت أم محمد.. النار اشتعلت، الحمام طار، وقدم أم «محمد» تنزف. أهالي القرية تجمعوا.. وبعد لحظات جاء «كوفين» قائد المجموعة ومعه الملازم «سميث» و«بول» حيثُ كانوا يصطادون على الطريق الزراعي. العمدة وأعيان القرية حاولوا فض الاشتباك، خاصة وأن مجموعة من الفلاحين أرادوا التحفظ على السلاح المستخدم وتسليمه للعمدة محمد الشاذلي.

بعدما هدأ الموقف قليلاً، خاف «بول» و«بوستك» فقطعا الطريق الزراعي جريًا طالبين المساعدة من المعسكر المرابط على بعد كيلومترات.
وصل «بوستك» منهك الجسد خائفا. أرهقه الجري والحر معًا، فلم يلتفت وراءه ليعرف أن زميله قد سقط مغشيًا عليه. هبت فرقة بالسلاح وتحركت، في الطريق عثروا على «بول» وهو يودع الحياة من الحر والجري والخوف معا. بعد خمسة أيام انعقدت المحكمة أمام مبنى محافظ المنوفية وقف أمامها 60 متهمًا وحضرها 4 آلاف من أعيان القرى. بعد ثلاثة أيام من تداول القضية حكمت بإعدام محفوظ ويوسف حسن والسيد عيسى ودرويش زهران. وحكم بالأشغال الشاقة على اثنين، وجلد 6 متهمين خمسين جلدة في نفس المكان في «جرن» القرية.

أمام المحكمة تقدم شاهد زور - صنعته السلطة المصرية والإنجليزية - يشهد ضد محفوظ ومن معه. الشاهد اسمه أحمد حبيب عمدة من العمد. قال: سمعت عمدة قرية «دنشواى» محمد الشاذلي يقول إن محفوظ هدد الضباط وقال لهم «لو فضلتم هنا.. هتعرفوا شغلكم».

واستغل الادعاء هذا الاتهام وطالب بإعدامه ومن معه. استدعت المحكمة المترجم عبدالعال صقر. وسألوه: هل قال محفوظ هذا الكلام؟ نفى وأكد أنه قال «اذهبوا واصطادوا خارج الجرن». ورغم ذلك رفضت عدالة الاحتلال شهادة الحق واستندت إلى شهادة الزور، ليعدم حسن محفوظ. ويصبح رقمًا جديدًا في ضحايا السلطة عندما تريد أن تلفق قضية، وتستخدم فيها عميلا من العملاء ليبدل الحق بالباطل. وعلى مقصلة الإعدام وأمام حبل المشنقة ووسط بكاء نساء وأطفال ورجال القرية. وقف محفوظ يستقبل الموت وهو يقول «الله يخرب بيتك يا محمد يا شاذلي» وما هي إلا لحظات فارق بعدها الحياة، وتسقط في نفس اللحظة زوجته العجوز مغشيًا عليها، ويسقط من يدها بقايا الطعام الذي لم يكمله عندما كان جالسًا أمام بيته، ويطير فوق المشنقة الحمام مستغلا رحابة السماء، بعدما ضاقت به عدالة الأرض، التي حاولت قتله مثلما قتلت حسن محفوظ بيد عميل باع ضميره لخدمة السلطة، فحول الحق إلى باطل والحى إلى ميت.

إعلان