إعلان

ما لم يقله البعض عن "فيس بوك" إذ يمضي كهلاً

ما لم يقله البعض عن "فيس بوك" إذ يمضي كهلاً

د. هشام عطية عبد المقصود
06:58 م الجمعة 10 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قد تقرأ تلك العبارات المستسلمة، والجمل المسترخية عن خلود "فيس بوك" في بعض الكتابات المتناثرة، باعتباره يقينا، وتراه حاضرًا ممتدًا في مقولات تطلقها مواقع وشاشات، جميعها تتحدث عن قوة ونفاذ وهيمنة كاملة لذلك الإعلام "الجديد"، قاصدة "فيس بوك" وأخواته من "تويتر" و"يوتيوب" وغيرهما، يحدث ذلك تحت ثقل الاقتناع بازدياد مساحة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في حياة المجتمعات والأفراد، ثم تنخرط بعض رؤى في الإشادة بدوره الذي يصلح لكل شيء، من مظاهر الحياة أرضًا وحتى فضاء الكواكب والمجرات، وقد تشكل كل ذلك وصار هكذا ثابتًا معرفيًا لا يقبل تحولاً أو نظرًا.

لا شك أن أدوات التواصل الاجتماعي اكتسبت أهمية من زاوية أساسية، تفرّع عنها كل شيء آخر وتال لها، وهى أنها صارت منصة حكايات الناس اليومية، بديلاً، أو وجودًا موازيًا، لجلسات الحكي على المقاهي والساحات، وكل ما كان يجمع الناس حضورًا ماديًا مباشرًا.

صنعت حالة شغف الناس بالتواصل والتفاعل مع غيرهم ممن يعرفونهم أو حتى ممن هم غرباء جزئيًا أو كليًا عنهم ازدهارًا لوسائل التواصل عبر الإنترنت، حيث منح لهم الفيس ساحته ليتلاقوا ويتجنبوا عوائق التواصل "الحقيقي" التاريخي وتكلفته جهدًا ووقتًا، أتاح لهم "مصطبة" عصرية للنقاش والقرب والاختلاف، وحتى الشجار والعداء.

جعل ذلك الناس يزداد حضورهم على تلك المنصات التفاعلية صوتًا وصورة، ثم أضيف لها خاصية بث حي للحظات التي يريد الفرد أن يشاركه آخرون فيها لعبًا أو جدًا، وهكذا اتخذ فيس بوك مساحة صارت تزداد لتفوق كثيرًا مساحة التعامل مع مختلف وسائل الإعلام "التقليدية" التي عرفها وألفها الجمهور عبر سنوات طويلة، لكن كل الخطأ الكبير، وربما عدم الفهم يكمن في ظن البعض أن وسائل التواصل الاجتماعي قد صارت في ذاتها وسيلة إعلام، ومنافسًا لوسائل الإعلام الأخرى، مستظلين بمؤشر معدلات استخدام الأفراد لها، وهنا يكمن الخلط فكرًا ورؤية ويستقر، ومن ثم يحتاج لإعادة ضبط.

"فيس بوك" وسيط متطفل لا يتضمن إنتاجًا إعلاميًا مستقلاً له هويّته، كما لا يمتلك خبرات وكوادر قادرة على فعل ذلك، هو فقط ساحة يحمل فيها الناس اهتماماتهم معهم حين يلتقون، ودون أن يتضمن ذلك سياسة إعلامية تتحكم وتوجه إنتاج ما يظهر عليه، فيما عدا ما هو اعتبارات قانونية وأخلاقية لنشر المحتوى على ساحته، وهي أمور تنظيمية لا غير.

أما عن كيف يحيا ويستمر "فيس بوك"، فالأمر ببساطة أنه مجال تجميعي لما يبثه الأفراد والجمهور، الكائنات البشرية وتلك الافتراضية، الحقيقية والمتخفية، الخيّرة والشريرة، ذات الأهداف وذات الأرباح، والتي صارت جميعها تحمل وجودًا عبر صفحات "فيس بوك".

ثم إنه علينا أن نعرف أنه لولا قصص وتقارير وخدمات الصحف والإذاعات والقنوات لظل "فيس بوك" وأخواته من وسائل التواصل مجرد صحيفة حائط إلكترونية، تشبه "جروبات" زملاء العمل والعائلات على تطبيق "واتس آب"، ولصار الفيس شيئًا آخر بلا ملامح ولا تفاصيل أو ودماء وحياة.

نحمل جميعنا قصصنا وروابطنا التي نستمدها من مختلف وسائل الإعلام، ونضعها هناك على وجه الفيس ليبتسم، ثم تنهمر اللايكات والتعليقات، ويدور حديث ممتد طويل حول ما تم استيحاؤه أو الاستناد إليه، أو حتى "قصقصته" ولصقه من محتوى وسائل الإعلام ليكون على صفحة الفيس، والتي تستوعب كل شيء.

وهكذا فإن كل تهديد يراه البعض من قبل وسائط التواصل الاجتماعي موجهًا نحو وسائل الإعلام هو من قبيل فيوضات الخيال العلمي أو يحوي كثيرًا من ذلك، والذي يتطلب، ليثبت ويكتمل، أن يتشكل واقعًا جديدًا هو أن يدخل الفيس بوك منتجًا للمحتوى الإعلامي، ويكون ما يقدمه على منصته ملكية فكرية ومؤسسية له، ولو فعل "فيس بوك" و"يوتيوب" وغيرهما ذلك، فإنه، وهنا تحديدًا، يكمن أوان أفولهم وانتهاء دورهم، لأنها ستتحول لواحدة من ملايين القنوات والصحف والمواقع والإذاعات التي تنقل شئون الحياة، ومن منصة احتواء لكل إعلام العالم إلى مجرد وجهة نظر، وطبعًا هنا سينفضّ مولدها الكبير.

بقاء "فيس بوك" يتمثل في أن يعيش هكذا، نباتًا متطفلًا متسلقًا غير منتج، لكنه يتغذى ويحصد ما لم يزرعه ويكبر، هكذا جاء الفيس إلى العالم وتضخّم ليملأ مساحة الأرض، وبعد أن ينقل جمهوره الجالس على ساحته رابطـًا صحفيًا من هنا ورابطًا لفيديو من هناك، ويدعمون كل ذلك بأفكار شخصية، فينمو حقل النميمة الأعظم كبيرًا متضخمًا شاهقًا متوافقًا مع رغبة الإنسان الأول في ونس الحكي.

بل ربما يمكن القول، وببعض تحفظ، أن "فيس بوك" مثل أشياء كثيرة قد عاشت فترة ازدهارها في الحياة، وربما تمضى لتفسح مجالاً لأشكال أخرى جديدة حقًا من طرق البشر في التواصل – ملبيةً تلك الحاجة الأبدية – وتأخذ شكل عصرهم وتحمل ملامح أيامهم. وتدعم إحصاءات متناثرة تزداد قوة وتماسكًا فرضية أن الفيس، ومع مرور كل يوم، لم يعد خيارًا تواصليًا أولاً لفئات شابة أقل عمرًا ستشكل مع الوقت الحجم الأكبر من سكان العالم.

كما أنه، وخلال عام 2017، حدث تباطؤ في النمو المعتاد والمستمر لدى قطاع المراهقين المستخدمين للفيس بنسبة 3,2% وفق إحصاءات شركة "eMarketer"لبحوث التسويق والإعلام الرقمي، ولأننا في زمن المستحدثات المفارقة للتوقعات والتلاحقات المدهشة، فقد نكون في انتظار ظهور مباغت لوسيط اجتماعي جديد قد يكون في مرحلة تشكل، بل وربما لن ننتظره كثيرًا.

 

إعلان